من فتوى قتل المؤلف البريطاني الهندي سلمان رشدي إلى الهجوم على مكاتب صحيفة «شارلي إيبدو» الفرنسية، لا تزال ظاهرة مناهضة التجديف بارزة في العالم الإسلامي. وللوهلة الأولى، تبدو المشكلة بسيطة إلى حد كبير، فعلى مدار سنوات هناك أحاديث كثيرة عن تصادمات بين التجديف وحرية التعبير في الإسلام. ولكن البعض يتجاوز ذلك بكثير، ويزعم أن «هناك عداء متأصلاً بين الحضارتين الإسلامية والأوروبية»، مثلما يشير الفيلسوف طلال أسعد. وربما يكون من السهل أن نتهم الإسلام بأنه يعاني من نقص التسامح وأن المسلمين معادون للحرية والديمقراطية ومؤيدون للطغيان والتعصب. بيد أن هذا التعميم يتجاهل ليس فقط عدد الفروع الإسلامية وتنوع وجهات النظر بين المسلمين ولكن أيضاً الأساس السياسي والاجتماعي للمشكلة. ويعتبر المصطلح الأكثر استخداماً لوصف التجديف لدى المسلمين هو «إساءة»، وتتنوع معانيه بين «الإهانة» و«الإيذاء» و«الاعتداء». غير أن هذا المصطلح لا ترتبط به عقوبة قضائية محددة تلزم كافة المسلمين بمهاجمة الفاعلين. والواقع أن مقاضاة المجدفين على النحو الذي يحدث في الوقت الراهن هي ظاهرة حديثة. وبشكل عام، أتصور أن فتوى قتل رشدي كانت بداية هذا الاتجاه. ومن المعروف أن مؤسسي تيار الإسلام السياسي هم مبتدعو هذا التوجه. لذا، نجد أن كثيراً من الكتاب والشعراء العلمانيين في بداية القرن العشرين لهم كتابات اعتبرها البعض تتنافى مع الإسلام في كثير من الاتجاهات المتباينة، مثل زكي نجيب محمود، المعروف بدفاعه عن الفلسفة الوضعية في العالم العربي، ونجيب محفوظ الذي فاز بجائزة نوبل للأدب عام 1988. لكن مفهوم الممارسات الدينية تبدو مشكلة أكثر مما هو مفترض شعبياً. فهو ليس مجرد أمر روحي مقدس، منفصل عن الأفعال السياسية والاجتماعية، وإنما تحيط به وتشكله أبعاد إنسانية أخرى. ونتيجة لذلك، يمكن للخلفيات السياسية والاجتماعية أن تدخل تغييراً على ممارسات المتدينين، وهو ما يشير إليه عالم الاجتماع بريان تيرنر في وصف المجتمع المسيحي قائلاً: "في ضوء نمو المؤسسات البرلمانية وتشريعات الرفاهية والالتزام بأيديولوجية المساواة، لا عجب أن المسحيين المعاصرين لا يقبلون الآن الحكم الثيوقراطي". وقد استغرق الأمر فترات طويلة كي تصبح المجتمعات الغربية على ما هي عليه الآن من قبول التسامح والتعايش. بعد أن دفع الغرب ثمناً باهظاً خلال قرون من الحروب السياسية والطائفية والدينية. وفي هذه الأثناء، وصل الوضع في بعض الدول الإسلامية إلى ما هو عليه الآن لأسباب متعددة من بينها زعزعة الاستقرار المستمرة، والإخفاق في بناء دولة مؤسسات ومجتمع مدني حقيقي والتدخلات الإمبريالية المدمرة. فقد سلمت القوى الاستعمارية الغربية كثير من دول الشرق الأوسط إلى سلسلة من الحكومات المستبدة. وأفضت المحاولات الفاشلة لبناء الدول إلى ظهور الشوفينية والأنظمة الاستبدادية، التي أيدتها بشكل كبير القوى الغربية الكبرى. وقد تمخضت الثورات الشعبية الأخيرة عن ظهور جماعات إجرامية، أيدت الدول الغربية كثير منها لأسباب مختلفة، مثل مواجهة الاتحاد السوفيتي في حالة تنظيم القاعدة، أو الأنظمة المعادية لإسرائيل في حالة تنظيم «داعش». ولكن يمكن للمرء أن يرى الأفكار التعددية، التي تتناولها كتابات نجيب محفوظ ومن قبله جلال الدين الرومي في القرن الثالث عشر، وغيرهما من الأدباء المسلمين في الماضي، والتي تؤثر في المجتمعات الإسلامية على نحو واسع النطاق. وعلى رغم الفرق الشاسع بين من يدعو إلى التعددية وبين أبو بكر البغدادي زعيم «داعش» الإرهابية، إلا أنه يُبرز فكرة أن التيار السائد من المسلمين لا يزال ضد أفعال البرابرة والإرهابيين. لذا على المجتمعات الغربية أن تساعد المسلمين على إظهار الصور الأصلية للإسلام، مثلما يرغب كثير منهم، ممن يكررون أن الإسلام دين سلام يتوافق مع احترام حقوق الإنسان والتعايش السلمي. علي معموري: باحث لدى معهد العدالة الاجتماعية في الجامعة الكاثوليكية الأسترالية. يُنشر بالتعاون مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»