لسنوات خمس، عشت بين جماعة كانت ترى في نفسها الجماعة الأخيرة الأمينة على نهج السلف الصالح، فلم نكن نعرف الصحف، ولا الراديو ولا التلفزيون، ولشهور عديدة قاسينا حياة صعبة فعشنا من دون كهرباء ولا مصابيح، احتذاء منا بسنة السلف الصالح، كما يعيش الأقدمون، اعتزلنا أهالينا، تبرأنا من كثير من أقاربنا، عادينا حتى من هو أقرب الناس لتفكيرنا لأنه لم يكمل الـ10% من متطلبات جماعتنا. كنا نتنقل في أرجاء المملكة من دون بطاقات ولا رخص قيادة، اثنان أو ثلاثة منا، اختاروا أن يركبوا الحمار والحصان، ويبنوا بيوتهم الطينية بأيديهم. فينا من كان يتجنب المشي فوق الطرق المعبدة، ومنا من كان يتحاشى قطع الشوارع التجارية، ويعمد إلى قطع أميال مشياً ليلتف على الطريق حتى لا تصيبه عقوبة من السماء إن سكت وداهن ولم يأمر ولم يحتسب. وفينا من كان يتردد في حفظ آيات من القرآن الكريم حذراً من ألا يقوم بواجبها عملاً وامتثالاً، وحتى لا يقف بين يدي الله من دون حجة تدفع عنه غضب الرحمن. هذه ليست حكاية موغلة في القدم، ليست أسطورة، ولا خيالاً، ليست وهماً ولا فرية على التاريخ. هذه كانت سنوات عشتها شاهداً عليها، مساهماً في نسج بعض أحداثها المغمورة في عتمة التاريخ وأبوابه الخلفية، هذه كانت قصة تجسدت بين عامي 1986-1991. لقد كنا نشعر بالأسى على العالم الذي اعتزلناه، نعيش بين أهالينا وأبناء عمومتنا وأهالي حارتنا، ونتعاطى معهم، ولكننا كنا نأوي مع غروب كل شمس إلى كهوفنا، بأشواقنا الساذجة، ونظرتنا المثيرة للشفقة تجاه عالم يهوي نحو الرذيلة، ولا حيلة لنا في انتشاله. لم يكن بيننا يومها من يحمل في تفكيره أي نزوع نحو «الجهاد»، ولا أي أفكار تكفيرية ولا خارجية، ولا لوثة تمرد أو خروج بالسيف أو البندقية أو العصا على الحكم وولاة الأمر. كنا حمائم لا مخالب لنا. حمائم في طور التخلق نشأة أخرى. في خريف 1986 في درس الصباح أثار واحد من زملائي مسألة «الجهاد» الذي تعطلت معالمه، ودرست آثاره، وكان أساس قيام الدولة، كان صاحبي يستحث الشيخ لينطق، ليقتل الخوف الذي بدا على نظراته، كنا أربعة لا خامس لنا. المدرسة العلمية الأهلية التي لا تتبع للحكومة ولا لوزارة المعارف كانت خالية من طلابها الثلاثمائة ومن مدرسيها. حتى الهمسة كان يمكن التقاطها، لكن الشيخ مع أنفاسه التي بدأت تتصاعد، تحت الإلحاح والحصار نطق بعد أن تنفس الصعداء: «وهل أنتم أكفاء للجهاد ضد هذه الدولة؟»، كان جواباً خاطفاً متردداً، مفعماً بالخيبة وبالشعور بالهوان، والخوف من آذان الجدران. كانوا يكابدون حالة من الانضباط والتوازن أورثتهم إرهاقاً ومجاهدة ضد نوازع الاحتساب التي كانت تؤزهم كل يوم، مكتفين بالاحتساب بالقول، بعيداً عن القوة، لا يتوقفون عن زيارة المسؤولين، وتذكيرهم بفرض الوفاء لما قامت عليه البلاد، فكل أسبوع يمضي رهط منهم إلى العاصمة سعياً منهم إلى إيقاف الطوفان بعباءاتهم الذابلة وأسمالهم المهترئة، وسحناتهم المجهدة، ومع كل حداثة تندفع البلاد نحوها، ومع كل قانون تقره الدولة، ومع كل تطور تسعى إليه البلاد، كانوا يرون أنفسهم يدفعون رغماً منهم خارج عالمهم الذي ألفوه، ويفقدون زمام التحكم بجوامح نفوسهم، وتتملص من بين جوانحهم مخاوفهم التي قمعوها، وتتهاوى أوهامهم التي غزلوها، ولم تمض سنوات عشر حتى غدا أغلبهم ضمن «القاعدة» ومقاتليها أو مموليها أو المتسترين على المطلوبين من المجندين لها. لقد تحول أبناؤهم إلى وقود للعنف، ومطية للإرهاب، وتلاعبت بهم التنظيمات المسلحة وأصبح بعض منهم ومن أبنائهم خونة لأوطانهم، لا أمان لهم ولا طمأنينة نحوهم. لقد ولد الوحش.