أقل ما يمكن أن يوصف به الهجوم الإرهابي على المجلة الباريسية «شارلي إيبدو» الأسبوع الماضي، والذي قُتل فيه اثنا عشر شخصاً من صحفييها، وأضيف لهم شرطي في الشارع هو أنها مذبحة تم التخطيط لها بعناية، وخضع منفذوها لتدريبات عسكرية. من هنا يثور سؤال مهم هو ما الذي يدفع شاباً فرنسياً من أصولٍ جزائرية ليرتكب مذبحةٍ كهذه؟ وفي جزء من الإجابة فإن هذا الشاب كما جاء في وثائقي شارك فيه قبل سنواتٍ كان -بحسب الوثائقي- «يحب أغاني الراب ويفضل مرافقة الفتيات على الذهاب إلى المسجد»، فكيف انقلبت أحواله لهذا الدرك الإرهابي؟ إنه جانب الهوية الضيق الذي يلجأ إليه الفاشلون كما هذا الشاب أو الذين يدفعهم «استقرار الفوضى» في دولهم إليه كما يجري في الجمهوريات المنتفضة في العالم العربي. فهذا الشاب حينما فشل ودفعه المجتمع الضيق الذي يعيش فيه داخل فرنسا بلا تحصيل علمي ولا تحضر ولا ثقافة إلى محاولة التشبث بأهداب الهوية حيث ذهب لمحرضٍ يدعي تمثيل هذه الهوية، التي هي الإسلام باسمه العام وبدون أي معرفة تتجاوز ذلك لدى هذا الشاب كان سهلاً على المحرض الذي أسماه الوثائقي «فريد» أن يحول الشاب لقنبلة موقوتة انفجرت عنفا وإرهابا في صحيفة «شارلي إيبدو». يجب أن يكون «فريد» وأمثاله هم الهدف الذي يحارب، وهم البؤر التي يجدر القضاء عليها، إن «فريد» هو رمز لا للأفراد المحرضين فحسب بل للجماعات والجمعيات التي تستغل وجودها في الغرب لخدمة الإسلام السياسي والإسلام العنيف جملة واحدة. أعلنت الإمارات قبل مدة عن قائمة طويلة للإرهاب، شملت العديد من الجماعات والجمعيات التي تختبئ خلف العمل الخيري أو رعاية مصالح المسلمين في بلدان غربية عديدة، وقد أثارت جدلاً مستحقاً في حينه، واليوم يثبت أن هذا كان عملاً متقدماً ورؤية استباقية، وأن على الدول الغربية أن تعيد تقويم ودراسة خطاب وأوضاع تلك الجمعيات والمؤسسات وأن تلغي الأصولية منها. سيكون على الدول الغربية مراجعة القوانين والتشريعات المتعلقة بالإرهاب، وألا تكون مقصورة على من يخطط لعمليات إرهابية، أو من ينفذها بل أن تشمل المحرضين من كل شكل ولون، وبغض النظر عن وسيلة التحريض سواء كانت تقليدية أم حديثة. صحيح أن الإرهاب لا دين له، وقد مرت كثير من الأمم والحضارات بمراحل دموية بشعة، ولكن صحيح أيضاً أن الإرهاب اليوم بصيغته المعاصرة يكاد يكون حصراً على الإسلام والمسلمين، أي على فئات تنتمي لهذا الدين لا لغيره من الأديان والحضارات والأمم. كان التجنيد والتحريض يتم عبر الوسائل التقليدية ولكنه تفشى بشكل عجيبٍ مع تطور التقنيات الحديثة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي وأصبح المجنِّدُ والمحرض الذي كان يقتصر تأثيره على بضعة أشخاصٍ يخاطب الملايين عبر هذه الوسائل، ومن هنا يجب البحث عن المسؤولية الأخلاقية والقانونية التي تتحملها هذه المواقع، كموقع «فيس بوك» و«تويتر» و«يوتيوب» وشبيهاتها، ويجب أن تتعاون هذه المواقع مع السلطات الأمنية حول العالم، وأن ُتحدّث برامجها بشكل يحجب هذا الاندياح الإرهابي عبر شرايينها. إن المساحة بين العالم الافتراضي والعالم الواقعي باتت ضئيلة جداً وتتآكل، وبالتالي فيجب تطوير المنظومات التشريعية للعالم الافتراضي لتقريبها من تلك الموجودة في العالم الواقعي مع زيادة في سرعة التنفيذ والملاحقة بما يتوازى مع سرعة مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الحديثة. للأسف، فإن منطق التاريخ يقول لنا إن حادثة «شارلي إيبدو» لن تكون الأخيرة، بل ربما كانت مقدمةً لجرائم مشابهةٍ في المستقبل، سواء تلك التي تأتي من بؤر الإرهاب في الشرق الأوسط أو من بؤر الإرهاب الموجودة في الدول الغربية، والتي لطالما رعتها ودافعت عنها، ومنحتها كامل الحرية حين كانت تهاجم دول الشرق الأوسط في العالم العربي والعالم الإسلامي، والتي اضطرت بعدما طالتها عمليات الإرهاب «القاعدي» أن تغير تعاملها معها. اليوم، يجب على الغرب أن يطوّر موقفه إن أراد القضاء على الإرهاب ليقضي على جماعات وجمعيات الإسلام السياسي التي هي منبع الإرهاب مع الإبقاء على حرية المسلمين في أداء شعائرهم دون تسيس ولا تطرفٍ، وهي معادلةٌ ليست صعبةً لو توفرت الرؤية الصحيحة والعزم على التنفيذ. أخيراً، سنبقى لسنواتٍ طويلةٍ في مواجهةٍ مستمرةٍ مع الإرهاب وجذوره، مع مراكزه وأطرافه، مع جماعاته ورموزه، مع خطاباته وأيديولوجياته وكلما تأخر العالم في التوحد ضده طالت سنوات مواجهته.