في الكتاب الذي نعرضه اليوم للمؤرخة بجامعة «تافس» الأميركية، عائشة جلال، بعنوان «الصراع من أجل باكستان: وطن مسلم والسياسات العالمية» تحاول المؤلفة استعراض أهم المحطات التاريخية، التي شكلت باكستان، وكانت لحظات مفصلية في مسيرتها، مسلطة الضوء على الديناميات الداخلية في تفاعلها مع التدخلات الخارجية والعلاقات مع القوى الدولية. فباكستان، كما تسرد المؤرخة الوقائع وتحللها، لم تصل بعد لمرحلة النضج، وليس ذلك غريباً أولًا لحداثة سنها، حيث لا تتجاوز 67 سنة، وهذا في عمر الدول فترة بسيطة، وأيضاً للظروف الموضوعية التي أحاطت قيامها، فضلًا عن الحروب التي دخلتها مع جارتها الهند. وعلى مدى السنوات الماضية حاولت النخبة الحاكمة في البلاد، ولاسيما الجيش الباكستاني، البحث عن شرعية قوية، فأحياناً سعت تلك النخبة إلى تطوير السلاح النووي وتحقيق التوازن مع الهند، وهو ما نجحت فيه بالفعل، وأحياناً أخرى سعت إلى دعم الشرعية من خلال لعب أدوار إقليمية، ولاسيما في أفغانستان ودعمها لقوى معينة طلباً لتحقيق مصالح النخبة العسكرية، بالإضافة إلى صراعها المستمر مع الهند على إقليم جامو وكشمير. وإذا كان بعض الكُتاب والمهمتين بالشأن الباكستاني يشيرون إلى مؤسسات ديمقراطية، مثل الحكومات المنتخبة والإعلام الحيوي، وأيضاً السلطة القضائية التي تتمتع بقدر من الاستقلالية يسمح لها أحياناً بمناوئة قرارات السلطة التنفيذية، ترى المؤلفة أن مشكلة باكستان وخلافاً لدول أخرى، التي غالباً ما تأتي لحظة تاريخية ما تجعلها تحيد عن الطريق وترتكب الأخطاء، تكمن في انطلاقتها وأن الأخطاء بدأت منذ وقت مبكر، وهنا تعود بنا المؤلفة إلى البدايات الأولى، وتحديداً إلى لحظة قيام جمهورية باكستان الإسلامية في 1947 كنتيجة منطقية، تقول المؤرخة، لفشل الحكم البريطاني في جنوب القارة الآسيوية، وعدم قدرته في تأمين حكم يرضي الأطراف جميعاً ويمنع الاحتقان والصراع، الأمر الذي تسبب في أهوال إنسانية، حيث سقط أكثر من مليون شخص في عمليات نزوح جماعي إلى باكستان، فيما اندلعت أيضاً أعمال العنف الطائفي بعد إعلان الاستقلال. ولكن هذا الوضع الذي آلت إليه الأمور بعد خروج بريطانيا من جنوب آسيا لم يكن خطأها لوحدها، بل تعزوه الكاتبة أيضاً إلى النخبة السياسية وقتها والمتمثلة في الزعماء الثلاثة: مهندس غاندي، وجواهرلال نهرو من حزب المؤتمر، ومحمد علي جناح، فبسبب الانقسامات الحادة التي كانت موجودة في الهند خلال الحكم البريطاني بين المسلمين والهندوس أراد علي جناح، المحامي المسلم المولود في كراتشي، قيام نظام سياسي فيدرالي، ولكن حزب المؤتمر كان يريد حكومة مركزية قوية تصهر الجميع تحت حكمها. وقد تضافرت عوامل عدة مثل الانسحاب البريطاني السريع من الهند، وتركيز محمد علي جناح على الفوارق الدينية لتؤدي في النهاية إلى حتمية الاستقلال، وهذا الانقسام والفوارق صاحب، تضيف المؤرخة، باكستان حتى بعد تشكلها الذي جمع بين الجزء الغربي وبين جزئها الشرقي غير المتصل معها جغرافياً في محافظة البنغال. ولكن هذه الصيغة لم يكتب لها الاستمرار طويلاً بسبب التناقضات بين المحافظات الغربية، وتحديداً البنجاب، وبين الجزء الشرقي، حيث ورثت البلاد التركيز البريطاني على تجنيد عناصر من البنجاب الذين أصبحوا يشكلون الأغلبية في الجيش الباكستاني. ولأن ظروف قيام باكستان كانت مضطربة فقد حاولت النخبة العسكرية وقتها الاستفادة من مناخ الاستقطاب العالمي، والحرب الباردة، فسارعت باكستان للتحالف مع الولايات المتحدة بحلول خمسينيات القرن الماضي، واستفادت أميركا من هذا التحالف الذي كانت تريد من خلاله موازنة القوة الهندية التي فضلت، على غرار بلدان عديدة أخرى الاصطفاف مع دول عدم الانحياز، وهي كتلة كانت في الواقع أقرب إلى المعسكر الشرقي. وهذه العلاقة المتميزة مع الولايات المتحدة استغلها الجيش في تبرير انقلاباته المتكررة التي انطلقت في عام 1958 واستمرت حتى 1999 عندما قاد برويز مشرف انقلابه على الحكم المدني. والنتيجة أن باكستان كابدت بصعوبة لبناء دولة ذات مؤسسات قوية بسبب هشاشة الأحزاب السياسية وفسادها من جهة، وتنفذ المؤسسة العسكرية من جهة أخرى، واستمرار التلويح بورقة التهديد الهندي أيضاً. زهير الكساب الكتاب: الصراع من أجل باكستان المؤلفة: عائشة جلال الناشر: جامعة هارفارد تاريخ النشر: 2014