انخفضت أسعار البترول الخام مرة أخرى وليست الأخيرة: هذه المرة من أكثر من 120 دولاراً للبرميل لأقل من 60 دولاراً، أي بنسبة أكثر من 50%. وتقلبات الأسعار العالمية تُصيب كل المواد الخام، ولكن يبدو أن البترول يتبوأ الصدارة في هذا المجال. نتذكر أنه في سنة 1974 ارتفع برميل البترول من 3 دولارات إلى 12 دولاراً -أي حوالى 400% وكانت نسبة هذا الارتفاع وليس ظاهرة الارتفاع نفسها استثنائية حينذاك.. وأرجعناها إلى حرب أكتوبر في سنة 1973. وفي الحقيقة تقلب الأسعار يبدو هو القاعدة: من 27 دولاراً إلى 10 دولارات في سنة 1986، ثم يعاود الارتفاع في العقد 1998- 2008 من 10 دولارات إلى 145 دولاراً أي أكثر من 1400%.. ثم نرى سعر البرميل ينخفض حالياً إلى أقل من النصف خلال الستة شهور الأخيرة. وعلى رغم أن أغلبية المحللين يشعرون بالقلق من انخفاض الموارد بهذه السرعة، فهناك بعض المنظّرين الذين يعتبرونها نعمة وليست نقمة. وهذه المدرسة الاقتصادية تُعرف باسم «لعنة وفرة الموارد» ومنطقها أن وفرة الموارد هذه التي تجلب الخير والثراء دون جهد تؤدي إلى اختيار الرزق السهل وتجنب مشقة تنمية أية قاعدة صناعية، وبالتالي تفقد الدول والمجتمعات قدرتها على بذل المجهود الذي يتطلبه العمل الشاق وبالتالي قدرتها على المنافسة في السوق الاقتصادية العالمية.. وتسمى هذه النظرية بـ«المرض الهولندي» لأن هذه الظاهرة بدأت في هولندا عندما ظهر عندها البترول واعتمدت على موارده ثم أهملت قطاعاتها الصناعية لعدم حاجتها إليها. ولكن عندما نضب البترول ولجأت إلى هذه القطاعات الصناعية للتصدير أصبحت غير قادرة على المنافسة في السوق العالمية! وترتبط نظرية «المرض الهولندي» أيضاً بمثالب الاقتصاد الريعي الذي نتكلم عنه كثيراً في منطقتنا. وفي ظاهرها تبدو نظرية «المرض الهولندي» و«لعنة وفرة الموارد» منطقية، ولكن الحقيقة أن الأضرار لا تعود لوفرة الموارد، فهو خير يتمنى الكثيرون في كل الأزمنة والأمكنة أن يكون من حظهم. وإنما المشكلة تأتي من تقلبات الأسعار السريعة والحادة في الوقت نفسه، بحيث تصبح ميزانيات الدول المختلفة غير قادرة على التكيف معها في مثل هذا الوقت القصير. مثلاً انخفض سعر برميل الخام من 145,29 دولار في 3 يوليو سنة 2008 إلى 40 دولاراً في ديسمبر من العام نفسه. وأكبر دليل على خطأ نظرية «لعنة وفرة الموارد»، وأن المشكلة هي سرعة وحدّة تقلبات الأسعار، هو ما يحدث في روسيا حالياً، وهي الدولة الصناعية الكبيرة حيث يبلغ دخل روسيا من صادرات البترول حوالى 300 مليون دولار سنوياً، أي حوالى 50% من ميزانيتها و68% من دخلها من النقد الأجنبي. وعلى رغم قاعدتها الصناعية، فإن التقلب السريع لسعر الخام أدى إلى هبوط «الروبل» بطريقة شبه كارثية، وبالطبع سينخفض أيضاً مستوى النمو العام في الاقتصاد الروسي. ولا يعني هذا بالمرة أن الدول العربية النفطية مثلاً لن تواجه مشاكل في تكييف ميزانيتها ونفقاتها، بل يمتد التأثير إذا استمر هبوط أسعار الخام إلى تقليل العمالة الوافدة، أو حتى تقليل حجم المساعدات الخارجية، وخاصة لدولة مثل مصر التي تعتمد الآن أكثر وأكثر على هذه المساعدات العربية، مما قد يؤدي إلى نتائج سياسية على المستوى الإقليمي، أو أن دولة مثل الجزائر لا تستطيع الوفاء بالتزاماتها تجاه بعض الجماعات التي تعاني من البطالة أو تعتمد على الدعم، مما قد يؤدي إلى «ربيع عربي» في ذلك البلد!