كنت قد تناولت في المقالة السابقة ما افترضت أنه قصور في التفكير الاستراتيجي الأميركي وقدمت أمثلة عديدة في هذا الشأن غير أنني تحفظت في نهاية المقال بأن هذا لا يعني أن السجل الأميركي في قيادة النظام العالمي خال من الإنجازات، بل لقد تحققت فيه إنجازات لافتة، وبالتالي فإننا نحتاج إلى تقييم موضوعي للأداء الأميركي عالمياً حتى نستخلص الدروس المستفادة بالنسبة لنا. وأبرز الإنجازات في هذا الصدد دون شك هو الانتصار التاريخي للولايات المتحدة في الحرب الباردة التي اشتعلت وتصاعدت بينها وبين الاتحاد السوفييتي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ويلاحظ أن هذا الانتصار كان كاملاً بمعنى أنه انتهى بتفكك الاتحاد السوفييتي وليس بتراجعه عن الصدارة مثلاً، كما أن النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية قد انهارت بدورها واتبع الجميع سياسات رأسمالية فضلاً عن التبعية في السياسات الخارجية إلى درجة أن المفكر الأميركي الياباني الأصل فرانسيس فوكوياما قد تحدث عن نهاية التاريخ بمعنى أن النظام الرأسمالي قد انتصر انتصاراً نهائياً على الشيوعية تماماً كما كان كارل ماركس يتحدث عن كون الوصول إلى الشيوعية يعني نهاية مسار التطور بوصوله إلى غايته المثلى! وهكذا انطلقت الولايات المتحدة جامحة في الساحة العالمية تفعل ما تشاء بغض النظر عن أي مواقف دولية تناقض ما تريد فعله وتعترض عليه، وكان المثال الأبرز في هذا الصدد هو غزو العراق في 2003 الذي اعترض مجلس الأمن بوضوح على أن يتم دون الرجوع إليه ولكن الإدارة الأميركية ضربت به عرض الحائط. وكذلك يمكننا الحديث عن نجاح السياسة الأميركية حتى الآن في حماية أمن إسرائيل ودعمها اقتصادياً ومن ثم فرض سياسات التسوية السلمية على العرب على رغم أنها لم تحقق لهم أي شيء حتى الآن بعد ما يزيد على ثلث القرن. ومن ناحية أخرى لا شك في الإنجاز الاقتصادي الأميركي الذي جعل الولايات المتحدة تتصدر بجدارة الاقتصاد العالمي حتى الآن على رغم كل ما تعرضت له من أزمات، وكذلك رغم الصعود اللافت لقوى اقتصادية أخرى بالمعايير العالمية كالاتحاد الأوروبي والصين واليابان، وهو الأمر الذي وفر لها الإمكانية واسعةً لاستخدام الأداة الاقتصادية بفعالية في سياستها الخارجية. وكذلك لا يمكن بحال إغفال الإنجاز الثقافي الأميركي بغض النظر عن رأينا فيه، فقد نجحت الثقافة الأميركية في اختراق العالم سواء من خلال الفنون والآداب وعلى رأسها فن السينما أو عن طريق نمط الأزياء وبالذات في أوساط الشباب بل وأنماط الأطعمة السريعة، وكلها أشياء جعلت الحلم الأميركي يسيطر على طموحات قطاعات عديدة داخل شعوب العالم خاصة أولئك الشباب، وهو ما يمثل قوة ناعمة بلا حدود للولايات المتحدة الأميركية. ويجادل البعض بأن هذه الإنجازات غير نهائية بمعنى أن الانتصار الأميركي في الحرب الباردة مثلاً مآله إلى الانتهاء بظهور قوى عالمية جديدة يمكن أن تصعد إحداها إلى مصاف القوة العالمية الأولى. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن التفوق الاقتصادي والثقافي الأميركي بمعنى أنهما يمكن أن يزولا، وهي طريقة فاسدة في التحليل لأن اتباعها يعني نفي أي إنجازات للحضارات الفرعونية والإغريقية والرومانية وللدولة العربية الإسلامية والدولة العثمانية طالما أنها كلها انتهت إلى زوال. وأذكر أن المفكر المصري الكبير الراحل محمد سيد أحمد قد قال عندما ذكر البعض أن تفكك الاتحاد السوفييتي يعني أن ثلاثة أرباع القرن من عمر روسيا قد ضاعت أنه واثق من أن التجربة السوفييتية قد صنعت الكثير لروسيا والعالم على رغم انتهائها على هذا النحو. والخلاصة أن الولايات المتحدة وهي في موقع القوة العظمى قد فشلت وأساءت كثيراً في إدارتها للعالم على رغم الإنجازات التي حققتها، وبما أننا نعيش في منطقة مليئة بالمشاكل المعقدة التي تستدعي بطبيعتها تدخلاً خارجياً، وأن الولايات المتحدة على رأس القوى المتدخلة في العالم فإن علينا أن ندرك أن ما تفعله السياسة الأميركية ليس بالضرورة صحيحاً أو مفيدًا بل إن أضراراً جسيمة يمكن أن تترتب عليه، وعلينا كذلك أن ندرك أن أوضاعنا ستكون أفضل كثيراً عندما نبادر بحلول لمشاكلنا تنبع منا وليس من غيرنا.