تخبرنا كتب التاريخ وتجارب الأمم، قديماً وحديثاً، أنه ما من شعب استطاع أن يخرج من الظلمة إلى النور، ومن التخلف والفقر إلى التقدّم والغنى، إلا بفضل شخصيات عظيمة، مثّلت بفكرها وعبقريتها وتفردها وإرادتها الصلبة، القاطرة التي نقلت بلادها من هامش التاريخ إلى قلبه، ووضعتها على درب المجد والعزة، وبثت فيها روح التفوق والتحدي، وطوت صفحة الصراع والصدام بين أبنائها، وقدمت للعالم كله تجارب خالدة في هزيمة المستحيل، وتجاوز وهج تأثيرها حدود أوطانها إلى العالم كله. وفي مسيرة دولة الإمارات العربية المتحدة والعالم، العديد من هؤلاء العظماء الذين نقشوا أسماءهم بحروف بارزة على صفحات التاريخ، لأنهم غيّروا هذا التاريخ في دولهم ومنطقتهم بل والعالم كله، وعلى الرغم من أنه كُتب عنهم ويُكتب وسوف يُكتب الكثير، فإن سجل إنجازاتهم وأعمالهم سيظل في حاجة مستمرة إلى من يسبر أغواره ويكتشف المزيد من جوانب التميز والعبقرية فيه، وهذا ما أحاول القيام به في هذه السلسلة من المقالات التي جعلتُ عنوانها "شخصيات ومواقف"، والتي سأتناول فيها مواقف العظماء وتجاربهم في بلدي وبلاد أخرى عديدة، خليجية وعربية وأجنبية، وما أحدثته وتحدثه من تحوّلات كبرى، ولكن ليس بمنطق المؤرخ الذي يسجل الوقائع والحوادث والسير الذاتية، وإنما بمنهج مختلف يقوم على بيان نقاط الضوء في تاريخنا وحاضرنا التي يمكنها أن تنير لنا الطريق نحو المستقبل، وتربط الماضي بالحاضر، وتقدم ذخيرة ثرية من الدروس والعبر التي نحتاج إليها في ظل عالم يموج بالمخاطر والتحديات والصراعات، وتعيش مناطق كثيرة منه مرحلة الفقر والتخلف، والتي آمل أن تسهم في تعريف الأجيال الجديدة في بلدي وبلدان العالم المختلفة بما قدمه ويقدمه هؤلاء العظام، ليس من أجل نهضة أوطانهم فقط، وإنما لتحقيق السلام والتنمية والرفاهية في أرجاء المعمورة أيضاً، حتى يكونوا نبراساً يضيء الطريق أمامنا في ظلمة النزاعات والحروب ودموية الإرهاب والتطرف التي تطبق على الواقع العالمي، ويغدو سجل إنجازاتهم ومواقفهم الخالدة مصدر إلهام لكل الذين يريدون خدمة بلدهم والإسهام في دفع البشرية إلى الأمام. إن أهم ما يجمع بين الشخصيات التي سأتحدث عنها، أنها صاحبة إرادة صلبة لا تلين، وثقة مطلقة بقدرة الشعب على صنع المعجزات، والبعد الإنساني، وعشق جارف للتحدي، وتطلع دائم نحو القمة، وحب عميق للوطن، وتأثير يتجاوز الأطر المحلية إلى العالم كله، إضافة إلى إدراكها معنى القيادة وما تعنيه في مسيرة الأمم والمجتمعات. كما أنني لن أكتب فقط عن شخصيات رحلت عن عالمنا كما يحدث في الكثير من الكتابات من هذا النوع، وإنما عن شخصيات ما زال عطاؤها متدفقاً أيضاً، وما زالت رؤاها وأفكارها تصنع التفرد لدولها ومجتمعاتها، وتمثل مدارس متكاملة ستظل قادرة على إبهار العالم وإلهامه لأجيال عديدة قادمة. وسوف أركز بشكل خاص في هذه السلسلة من المقالات على الشخصيات الإماراتية، حيث إن الإمارات، في تاريخها وحاضرها، تقدم مثالاً بارزاً على صدق مقولة علماء الإدارة بأنه ليس هناك دولة فقيرة ودولة غنية وإنما هناك قيادة فقيرة وأخرى غنية، فالأمم الفقيرة ليست تلك التي لا تمتلك الأموال وإنما التي تفتقر إلى القيادة الحقة، وهذا ما أكدته تجارب دراسات التنمية التي تتحدث عن دور مهم للقيادة في صنع النهضة، وتؤكد الوحدة الناجحة في كل دول العالم قديماً وحديثاً. يقول توماس كارليل، الكاتب والمؤرخ الأسكتلندي الشهير «إن تاريخ العالم ليس إلا سيرة الرجال العظماء» وأنا أقول إن تاريخ الإمارات وحاضرها ليس إلا سيرة رجال ونساء عظماء ومخلصين، وهؤلاء وغيرهم من دول العالم المختلفة هم من سأكتب عنهم وعن ومضات من مواقفهم التي سجلها التاريخ وستحفظها ذاكرة الأجيال بعد الأجيال.