يحيى جامي.. قاهر النهر يعود إلى القصر! تعتبر غامبيا هي أصغر دولة مساحة في بر القارة الأفريقية، وتبدو على الخريطة كلِسان ترابي طويل يخترق خريطة جمهورية سنغال، ويخترقه هو أيضاً نهر غامبيا الذي تحمل البلاد اسمه، وتمتلك هذه الجمهورية إطلالة بحرية من الجهة الغربية على المحيط الأطلسي. ووسط هذه الخريطة المعقدة، التي قد تحتاج رؤيتها بالتفصيل استخدام محرك «غوغل إيرث»، تعتبر العاصمة بانجول هي المدينة الكبيرة الوحيدة، وهي مركز النشاط الاقتصادي، وعاصمة اتخاذ القرار، وعند عتبات القصر الرئاسي فيها تتقطع كل خطوط وخيوط التنافس على السلطة، وعلى أسواره أيضاً تقع عيون الطامحين الطامعين بالوصول إليها. ويعتبر هذا القصر بين الأكثر استقراراً على مستوى القارة حيث لم يسكنه حتى الآن سوى رئيسين منذ استقلال غامبيا في سنة 1965، الأول هو الرئيس السابق داوودا جاوارا، والثاني هو الرئيس الحالي يحيى جامي الذي حمله إليه انقلاب عسكري على سابقه في سنة 1994. ومنذ ذلك التاريخ ظل «جامي» يضمن في كل انتخابات تجديد ولايته الرئاسية، وقد فاز في نوفمبر 2011 بولاية رابعة لمدة خمس سنوات تنتهي في 2016. وعلى رغم مرور عقدين من الاستقرار السياسي في بانجول إلا أن الرئيس «جامي» لم يعدم أيضاً وجود معارضين شرسين، نافسه بعضهم في دورات الانتخابات الرئاسية، في حين آثر بعض آخر طريقاً أقصر إلى القصر، وبساطاً أحمر مفروشاً بالعنف كما وقع في يوم الثلاثاء الماضي، 30 ديسمبر، حين شقت هدأة سماء القصر زخات الرصاص واستيقظت العاصمة بانجول على أجواء انقلاب عسكري أفريقي كامل المواصفات: قتال عنيف بين الحرس والمتمردين، وأنباء متضاربة، ورئيس الجمهورية خارج البلاد، وشائعات طيّارة وأخبار عاجلة واتهامات واتهامات مضادة في كل اتجاه. وبسرعة تمكنت قوات «جامي» من التغلب على المهاجمين، ووصل الرئيس نفسه يوم الأربعاء، 31 ديسمبر، نافياً أن يكون الأمر انقلاباً من الأساس، مقدماً توصيفاً آخر: «كان هجوماً نفذته جماعات إرهابية مدعومة من بعض القوى الخارجية التي لن أذكرها بالاسم الآن؟».. ولكن من تكون حقاً هذه القوى، المتآمرة على الرئيس يحيى جامي؟ ولماذا؟ وقبل ذلك، من هو يحيى جامي نفسه، الرئيس، والسيرة، والمسيرة؟ ولد يحيى عبد العزيز جامي في 25 مايو 1965 في منطقة كانيلاي بغامبيا، وبعد إكمال دراسته الأولى التحق بالقوات المسلحة الغامبية، التي خدم فيها في رتبة ملازم، وبهذه الرتبة قاد مجموعة من الضباط في 22 يوليو 1994 للانقلاب على الرئيس السابق «جاوارا»، وظل على رأس مجلس عسكري لمدة عامين، حتى خلا له وجه السلطة لينفرد بالزعامة تماماً في سنة 1996، ومنذ ذلك التاريخ وهو يجدد في منصب رئاسة الجمهورية. وكان الرئيس «جامي» صديقاً وثيق الصلة بالزعيم الليبي السابق معمر القذافي، ومثله يحمل هو أيضاً، أحياناً، في وسائل الإعلام الرسمية الغامبية مجموعة طويلة من الأسماء مثل «الرئيس صاحب الفخامة البروفسير الشيخ الدكتور يحيى عبد العزيز جاميس جانهانغ جامي»، ولئن كان القذافي كان يعرف ضمن ألقابه الكثيرة بصفة «مفجر النهر الصناعي العظيم» فقد اتخذ الرئيس جامي أيضاً صفة «قاهر النهر»، وإن كان قد تخلى عنها بعد أربعة أشهر لا غير، بحسب ما أعلنت وزارة الخارجية الغامبية في ديسمبر 2013. ومثل القذافي أيضاً توترت علاقات الرئيس «جامي» كثيراً بالقوى الغربية، خاصة بعد إعلانه الانسحاب من «الكومنولث»، وكذلك اختيار اللغة العربية كلغة رسمية للبلاد بدلاً من اللغة الإنجليزية.. وقد ضخ كل هذا معطوفاً على إعلان «جامي» عن اكتشاف علاج عشبي فعال للإيدز وآخر لضغط الدم الشرياني، وادعاءات أخرى كثيرة مثيرة للجدل، المزيد من دواعي التصعيد الخطابي الإعلامي بينه وبين الغرب، ولم تتأخر طبعاً حملات الإعلام الغربي المشحونة الرامية لـ «شيطنته» وتأليب الرأي العام ضده، وتقديمه في صورة الزعيم غريب الأطوار. ولذا ففي الانقلاب/ «الهجوم الإرهابي» الذي وقع يوم الثلاثاء الماضي، الذي اعتبر رسمياً مؤامرة دعمتها قوى خارجية، كان أول تفسير يمكن أن يخطر على الذهن، كما يقع عادة في انقلابات الدول الأفريقية، هو احتمال أن تكون مؤامرة إمبريالية غربية حاقدة، خاصة أن الرئيس أشار إلى ضلوع «منشقين يتخذون من الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا مقراً لهم»، هذا فضلاً عن كون متزعم عملية الهجوم نفسها على القصر هو النقيب في الجيش الغامبي الأمين ساني (صانع)! وهو رئيس سابق للحرس الرئاسي، وضابط احتياط في الجيش الأميركي، ويحمل جنسية غامبية وأميركية مزدوجة! غير أن مسؤولاً في وزارة الخارجية الأميركية أفسد على المراقبين تفسير «المؤامرة الإمبريالية» الجاهز والمريح عادةً، نافياً أية صلة لأميركا بما جرى. وهو ما قد يكون الرئيس جامي نفسه قد اقتنع به أخيراً حيث اتجه لتصفية الحساب مع المتآمرين الداخليين من خلال حملة اعتقالات، مؤكداً أن «كل شخص تورط في هذا سيدفع ثمناً غالياً.. قريباً جداً.. أعني في القريب العاجل».. وقد شملت الحملة أيضاً زعيم المعارضة المقيم في سنغال «شيخ بايو» الذي تم إيقافه هناك أول من أمس على خلفية اتهامه بالضلوع في الهجوم، ويتوقع تسليمه لبلاده في أية لحظة، ليكتب بذلك للرئيس جامي عمر رئاسي جديد، وسط واقع محتقن ووضع إقليمي ودولي ضاغطين، وأيضاً في بلد صغير لا يمتلك ترف التحول إلى بؤرة عدم استقرار أخرى رخوة في خاصرة أفريقية غربية لا تنقصها أصلاً الأزمات النازفة ولا بؤر التوتر العاصفة. حسن ولد المختار