العالم الإسلامي والعربي اليوم أحوج ما يكون لنشر ثقافة «التسامح الديني»، ذلك أن خطاب الكراهية والإرهاب وحركات العنف الديني والأصولية المشرعة للكراهية يصدر عن حركات تنتمي للدين الإسلامي، بمعنى أن مهمة نشر التسامح يُفترض أن تقوم بها الدول والنخب المثقفة والمجتمعات الإسلامية. ونظراً للواقع المعيش فإن وسائل الإعلام، ومراكز الأبحاث، والدراسات الأكاديمية، ومطابخ صناعة القرار حول العالم، أصبحت توجه أصابع الاتهام للإسلام نفسه، لا للخطابات التي تستغله لهدف سياسي، ولا للجماعات التي تشوهه، بأنه المسؤول عن الإرهاب الحديث. إن إنكار الواقع ليس حلاً، بل الحل يكمن في تفهم المشاكل والسعي لحلها، ولئن كان صحيحاً أن خطابات العنف الديني وحركاته وجماعاته وأحزابه اليوم تنتمي في غالبيتها للإسلام، إلا أن العديد من الأديان والخطابات الدينية المنتمية إليها مرت بلحظات تاريخية كانت هي منبع العنف ومصدر الإرهاب في العالم، وقد صدرت منها أبشع التصرفات المعادية للإنسانية والمنافية للتحضر. هذه حقائق تاريخية لا تحتاج لتأكيد، ولكن الذي يجب أن نعتني به اليوم هو أسئلة من نوع، هل نستطيع نزع مخالب الكراهية ومحاربة خطابات التطرف وحركات العنف الديني أم لا؟ وهل بالإمكان صنع خطابات دينية أكثر تسامحاً مع العالم وتسامحاً مع المخالف؟ في محاولة الإجابة، فإن كثيراً من الأمم والدول والشعوب أنجزت مشاريع تجاوز العنف والإرهاب إما بحروب أهلية ومذابح ومجازر كبرى، وصراعاتٍ دامية بين الديني والسياسي، كما جرى في سياق الحضارة الغربية، وإما بهزائم عسكرية خارجية كما جرى في اليابان على سبيل المثال، وإما باللجوء لتعايش ما بعد حروب دامية كما جرى في الهند، وإما بغيرها من الأمثلة. ويأتي هنا سؤال آخر لا يقل أهمية، وهو على كتف من يقع تحمل المسؤولية في إنجاز الحل الناجع والنموذج الأفضل؟ وإجابة هذا السؤال معقدةٌ بحجمه، ولكن على المسلمين جميعاً، دولاً ونخباً، وشعوباً ومجتمعات أن يتلمسوا السبيل لإيجاد حلولهم الخاصة بهم، وليس عليهم أن يخوضوا أياً من الطرق التي سلكتها الأمم والدول والشعوب السابقة، ووهم كبير أن يظن البعض أننا بإزاء نموذج موحد يجب أن نمر به لإنجاز الخلاص المطلوب. في زمن الدولة الحديثة فإن المسؤولية الأكبر تقع على الدولة، من دون أن يمنع ذلك أي تأثيرات مهمة تقوم بها انتماءات دينية أو حركات سرية أو تعقيدات تنفيذية، ولكل دولة أن تختار سبل النجاة وجسور العبور بين الواقع وبين النموذج المطلوب. إن أي مهمة في هذا السبيل يجب أن تراعي الواقع أن تتعامل معه بعقلانية، وأن تصنع نموذجها الخاص، الذي يضمن ضرب الإرهاب وقمع الأصولية والوصول للحل المطلوب، ضمن رؤية خاصة لا تستحضر التاريخ والتراث إلا بقدر ما تسعى لصناعة مستقبل مختلف. إن الحاجة إلى التسامح هي حاجة عاجلة وضرورة ملحة ومشروع يجب إنجازه بأي ثمن، فهو ليس ترفاً ولا أمراً ثانوياً، بل هو في الصميم من أي رؤية للمستقبل، وأي خطط للبناء والتنمية، وأي رغبة في الأمن والاستقرار، فقد انفجرت خطابات التطرف لدينا وتفشت جماعاته وانتشر دعاته، وأصبح أبناؤنا نهباً للمحرضين والمجندين والمحشدين للإرهاب، تأكلهم الحروب والنزاعات في المنطقة زرافات ووحداناً. إن أي مشروع لنشر التسامح وضرب الكراهية والقضاء على الإرهاب، لن يكتب له النجاح حتى تتضافر له كل الجهود وتتعاون فيه كل مؤسسات الدولة ضمن رؤية متكاملة وشاملة، تبنى على مراحل متتالية وأهداف لكل مرحلة وسيطرة على جليل الأمور وصغيرها، وصولاً لتحقيق الهدف الأكبر وهو نشر التسامح وضرب الكراهية. إن الدماء والأشلاء التي تغطي مساحاتٍ شاسعة من العديد من البلدان العربية تنذر العاقل وتحذر الحصيف من إمكانية انتشارها وخطر تفشيها بحيث أصبح الدمّ هو أرخص الأشياء واستباحته هي أسهل الأحداث، وما مأساة الأقليات المسالمة في الدول العربية التي استقرت فيها الفوضى كالعراق وسوريا وليبيا إلا مجرد مثال لما يمكن أن تتطور الأمور باتجاهه. مع توالي الأحداث وتطور النزاعات وتصاعد الصراعات أصبحت لغة الإرهاب والعنف تزداد أنصاراً وتمزق أي حدود إنسانية أو أخلاقية وهي متجهةٌ للأسوأ ما لم تجابه بنقائضها من التسامح والمحبة والحوار. أخيراً، نحن بحاجة ماسة إلى التسامح، فحياة إنسان سالم واحد هي أغلى من كل الأيديولوجيات المنغلقة وخطابات الإسلام السياسي وجماعاته، وحركات العنف الديني ورموزه، وهي أغلى من كل المحرضين على العنف والمروجين له.