دخولنا سنة 2015 يعني، بين ما يعنيه، مرور 40 عاماً على اندلاع الحرب الأهلية- الإقليمية في لبنان عام 1975. ولكنْ لماذا التوقف عند تلك الحرب ومناسباتها الدائمة فيما المنطقة اليوم تعج بالحروب والمآسي على أنواعها؟ لاشك في أن الحرب اللبنانية -التي أُرّخ رسمياً لانتهائها في 1989- 1990- تحظى بموقع تأسيسي في تاريخ الحروب الأهلية لمنطقة المشرق العربي في العصر الحديث، أو بلغة أدقّ: زمن ما بعد الاستقلالات. ففي الحرب اللبنانية التقت ثلاثة أبعاد يندر أن نراها على هذا الوضوح في الحروب الأخرى، بما فيها تلك اليمنية (خارج منطقة المشرق) التي احتلت معظم سنوات الستينيات واتخذت بعداً إقليمياً حاداً، فلم تخمد نارها إلا مع حصول الهزيمة العربية الكبرى أمام إسرائيل في حرب يونيو 1967. فالحرب اللبنانية كانت، أولاً، حرباً في نطاق الحداثة وفي فلكها. ذاك أن لبنان كان يومذاك «متقدماً»، بمعيار وجود طبقة وسطى عريضة وحياة برلمانية وانفتاح على العالم الخارجي ومستويات تعليم جيدة وخدمات تفوق مثيلاتها في المنطقة. ومع هذا فإن المواصفات المذكورة لم تُحل دون ممارسات عنفية وهمجية تبادلها اللبنانيون والفلسطينيون كما تبادلتها الطوائف اللبنانية فيما بينها. وهكذا كشفت تلك الحرب أن «حداثتنا» هذه ليست عاصماً دون الوعي الطائفي والجماعاتي الذي قد يتخذ أشكالاً بدائية قصوى، وأن الطائفية وما يماثلها من روابط «متخلفة» تستطيع أن تتعايش تمام التعايش مع بعض مظاهر التقدم والانفتاح على العالم والعصر. يقال هذا الكلام فيما يبدو الآن -تحت وطأة «داعش» وارتكاباتها الهمجية- أن الممارسات المتأخرة حكر على وعي وسلوك بعينهما وعلى قطيعة مع العالم بمعارفه وتقنياته. وهذا ما خطّأته التجربة اللبنانية السابقة قبل أن تخطّئه جريمة 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن، التي أثبتت أن التمرس ببعض التقنيات المتقدمة والمعقدة قابل لأن يتعايش مع وعي بالغ الجمود والقتامة. أمّا ثاني أبعاد الحرب اللبنانية فأنها شكلت امتحاناً كبيراً للوعي الإيديولوجي السائد عربياً منذ 1948، تاريخ وقوع النكبة الفلسطينية. فمذاك، وخصوصاً منذ الصعود العسكري في سوريا ومصر أواسط الخمسينيات، بدأت قضية فلسطين توصف بالقضية «المقدسة» ومحط الإجماع الشامل، وبأنها القضية المركزية للعرب أجمعين. وفجأة تبين أن هذه القضية نفسها يمكن أن تنقلب موضوعاً نزاعياً كبيراً بين عرب وعرب آخرين. وهذه الوجهة عدنا لنراها لاحقاً في أشكال أخرى، مع غزو الجيش العراقي في عهد صدام حسين لدولة الكويت. وهكذا ظهر بوضوح كبير كيف أن النفخ الإيديولوجي الذي مارسته الأنظمة العسكرية- العقائدية للموضوع الفلسطيني- الإسرائيلي، من أجل تحويل الأنظار عن منهجها في الحكم والتسلط، إنما اتضح زيفه وكذبه. وكذلك انطوت الحرب اللبنانية على بعد تأسيسي ثالث هو الاستطالة في الزمن. صحيح أن التأريخ الرسمي جعل من اتفاق الطائف الذي عُقد في 1989 بداية نهاية تلك الحرب. ولكننا بتنا نعرف جيداً، خصوصاً منذ اغتيال رفيق الحريري في 2005 وما أعقبه من تطورات، أن سلام الطائف كان بالغ الشكلية والظاهرية، وأنه احتوى في داخله كل عناصر الانفجار السني- الشيعي، فضلاً عن التهميش المسيحي بطاقته الشديدة الاحتقان. وقد عبرت ثنائية الإعمار (السني)- المقاومة (الشيعية) عن المعضلة العميقة التي تقيم في صيغة ما بعد الطائف، وخصوصاً أنها استدعت نظام الوصاية السورية (ومعه النفوذ الإيراني النامي) لحمايتها وتأبيدها. أما ما هو تأسيسي في الكلام على الاستطالة في الزمن فيكمن في الفارق بين الحروب: ذاك أن الحروب في زمن الحرب الباردة كانت تنتهي بعد سنوات قليلة بواحدة من صيغتين: إما على شكل منتصر واضح في مقابل مهزوم واضح، كما في فيتنام وكمبوديا والحروب الهندية- الباكستانية أو الإثيوبية- الصومالية، أو على شكل تسوية يصار معها إلى تقسيم البلد نهائياً بين الطرفين المتنازعين وبين مصدري النفوذ الداعمين لهما، كما الحال في الحرب الكورية. بيد أن الحروب في زمن ما بعد الحرب الباردة لم تعد تنتهي، بل راحت تتناسل في الزمن مولّدة قوى أهلية -دينية أو إثنية- تتجاوز القوى السابقة تطرفاً وراديكالية. وهذا ما نراه مثلاً في الصومال أو أفغانستان أو نيجيريا. وفي هذا المعنى فإن الحرب اللبنانية التي تنتمي زمناً إلى حقبة الحرب الباردة، تنتمي في طبيعتها إلى مواجهات ما بعد الحرب الباردة. وهذا ما لا نراه اليوم على شكل انفجار شامل، إلا أننا نعيشه على هيئة انفجارات موضعية متنقلة وحالة من الانفصال النفسي بين الطوائف والمناطق هي مجرد تأجيل للنزاع مع المضي في مراكمة أسبابه، وهذا فضلاً عن العجز الضارب أطنابه في ما خصّ تفعيل المؤسسات الدستورية: فالبلد اليوم بلا رئيس جمهورية، فيما المجلس النيابي يعيش بالتمديد، بينما الحكومات، ومن ضمنها الحكومة الحالية، لا تُشكّل إلا بشق النفس. وبطبيعة الحال فإن من يعولون على أحداث هشة من نوع «الحوار» بين «حزب الله» و«تيار المستقبل»، يراد لها التغلب على الأسباب النزاعية الكثيرة، فإنما على عبث يراهنون.