لم يكن إعلان الخارجية السودانية قرار الحكومة الطلب من منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية والتنموية مغادرة البلاد قبل الثاني من يناير أمراً مفاجئاً وإنما المفاجأة كانت في توقيت القرار، إذ كان قد سبق إعلان الخارجية بشأنه بيوم واحد طرد مديرة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في السودان «أيفون هيلي» الهولندية الجنسية مما جعل حكومة السودان تبدو وكأنها في حالة حرب دبلوماسية مع المنظمة الدولية التى انضمت البلاد إليها في اليوم الأول من يناير 1956 بعد ساعات من إعلان استقلالها، وسافر وزير الخارجية آنذاك السياسي المتميز مبارك زروق على رأس وفد عالي المستوى ليحضر الجلسة التي عقدتها الأمم المتحدة لإعلان الموافقة على عضوية السودان. إن الحرب الدبلوماسية التي يبدو وكأن السودان قرر خوضها ضد المنظمة الدولية لم تبدأ بإعلان طرد منسق الشؤون الإنسانية الآن، فقد شهد عام 2014 عدة عمليات مماثلة طالت موظفي المنظمات الدولية العاملة في مجال الإغاثة وشؤون اللاجئين، أبرزها إبعاد مديرة صندوق الأمم المتحدة للسكان الأميركية «باميلا ديلارغي» وخمسة من موظفي منظمة الأغذية والزراعة «الفاو» واللجنة الدولية للصليب الأحمر، إلى جانب عددٍ من موظفي المنظمات غير الحكومية العاملة في الشأن الإنساني اتهمتهم الحكومة بالعمل على تشويه صورة السودان خارجياً. وقصة منسق الشؤون الإنسانية تستحق وقفة متأنية عندها... فالحكومة السودانية تقول في تصريحات منسوبة للمتحدث باسم الخارجية السودانية إنه قد أدلى بتصريحات صحفية لجريدة نرويجية أساء فيها للسودان... ولكن الرجل نفى مراراً أن يكون قد أساء للسودان، وأنه يحتفظ بتسجيل صوتي لوقائع اللقاء الصحفي مع تلك الصحيفة النرويجية، وقد وقع سوء فهم لحديثه ذلك... مع التشديد على أنه يؤدي واجبه الوظيفي وفق مسؤولياته المحددة مع احترامه التام للدولة المضيفة... وقالت الخارجية السودانية إنها أعطته مهلة كافية لإبراز التسجيل الصوتي على أساس أن الصحيفة حرّفت أقواله ولكنه لم يفعل. ومن جانبه سارع الأمين العام للأمم المتحدة «بان كي مون» بإصدار بيان صحفي تلاه المتحدث الرسمي باسم المنظمة أعلن فيه استنكاره ورفضه لسلوك الخارجية السودانية في قضية الإبعاد واعتبره أمراً غير مقبول ودافع بحرارة عن الموظفين المُبعدين، وأنهما يؤديان مسؤولياتهما الوظيفية بكفاءة واحترام، وطالب حكومة السودان بإعادة النظر في قراراتها والتراجع عنها... وقال المتحدث باسم الأمين العام إن السودان بهذا السلوك المرفوض لا يساعد المنظمة في تحقيق التعاون المطلوب بينه والمنظمة الدولية. ومع ملاحظة النبرة العالية التي تميز بها بيان المنظمة فإن المراقبين لهم ملاحظة أعمق في موقف الطرفين، حيث تكمن تلك الحالة المتوترة وخاصة أن هذه القرارات قد تزامنت مع طلب السودان من الأمم المتحدة وضع برنامج لسحب قواتها لحفظ السلام المشتركة مع الاتحاد الأفريقي. وجاء رد وزير الخارجية السوداني على بيان «بان كي مون» بأن السودان لن يتراجع ولن يعيد النظر في قراره القاضي بإبعاد كل من المسؤولين الأمميين... وأكثر من ذلك قال المتحدث باسم الخارجية السودانية إن السودان لن يتردد في طرد وإبعاد أي موظف أممي يتعدى حدود وظيفته ويسيء قولاً أو عملاً للسيادة السودانية... وهو تصريح قد يبدو في لهجته كأنما السودان يعد العدة لخوض حرب دبلوماسية مع المنظمة الدولية وخاصة أن المستقبل القريب ربما يحمل مزيداً من التوتر بينهما بشأن احتمال إحالة ملف المحكمة الجنائية الخاص بملاحقة الرئيس البشير إلى مجلس الأمن الدولي. وهذا الجو المشحون والمتصاعد بين الحكومة السودانية والمنظمة الدولية ينذر بمواجهات وتوترات قد يطول أمدها، وقد تتخذ فيها مواقف متشددة يعد السودان نفسه لها ربما معتمداً على مساندة ودعم كل من روسيا والصين اللتين شهدت الخرطوم تحركاً واسعاً لوزيري خارجيتيهما هذا الشهر. دبلوماسيون سودانيون قدامى نصحوا الحكومة بأن تتخلى عن سياسة اللعب «الخشن» مع المنظمة لأن ذلك لا يَصْب في مصلحة السودان، وقد كان من الممكن أن تُمارس الحكومة اللعب الدبلوماسي الناعم وأن تصل إلى نفس النتيجة التي ترغب فيها بطرد الموظفين الأمميين وفي كتاب الدبلوماسية الدولية أكثر من طريق يؤدي إلى ذلك.