ينطوي التغير الذي بدأ في العلاقات الأميركية- الكوبية باتجاه مصالحة تدريجية، بعد صراع حاد استمر لأكثر من نصف قرن (54 عاماً)، على دروس ما زالت البشرية غير قادرة على استيعابها رغم وضوحها وبساطتها. ومؤدى هذه الدروس هو أن الصراعات والحروب مصيرها في النهاية إلى تسويات كان ممكناً تحقيقها في البداية، ومن ثم تجنب خسائر فادحة تترتب عليها. لم يكن مستحيلاً، حتى إذا كان صعباً، التوصل إلى صيغة للتعايش بين الدولة العظمى الأولى في العالم ودولة صغيرة تطلعت إلى التحرر من التبعية، ولكنها أقامت نظاماً شيوعياً في ذروة الحرب الباردة الدولية. كانت أزمة الصواريخ التي وضعت العالم كله على حافة الهاوية عام 1962، عندما سمح الرئيس السابق فيدل كاسترو لموسكو بنصب صواريخ نووية في كوبا، هي الأكثر خطراً منذ أن صار الصراع بين المعسكرين الأميركي والسوفييتي هو محور النظام العالمي عقب الحرب العالمية الثانية. فقد أظهرت تلك الأزمة حدة الخطر المترتب على استفحال صراعات الحرب الباردة، مثلما أوضحت في الوقت نفسه إمكان تسوية تلك الصراعات بدليل النجاح في نزع فتيل أزمة الصواريخ قبل أن يشتعل ويُشعل العالم كله. ومع ذلك، لم تكن أزمة الصواريخ بخبرتها المزدوجة هذه كافية لكي يبصر طرفاها عدم جدوى تصعيد الصراعات لتصبح صفرية عبر سعي كل طرف إلى تحقيق أهدافه كاملة وإلحاق هزيمة نهائية بالآخر والقضاء عليه إذا أمكن. ولذلك أُغلق الباب الذي فتحه حل أزمة الصواريخ، وضاعت فرصة تاريخية لتسوية للصراع الذي أنتج تلك الأزمة. كما أهدرت واشنطن وهافانا فرصة ثانية بعد ما يقرب من ثلاثة عقود، حين انهار الاتحاد السوفييتي الذي دارت كوبا في فلكه. فقد أصر كاسترو على استمرار الصراع الصفري، ومواصلة العداء لأميركا التي تمادت بدورها في التصعيد بدلاً من أن تستثمر فرصة انتهاء الحرب الباردة الدولية. وأصدرت إدارة بوش الأب في المقابل «قانون الديمقراطية في كوبا» بهدف التعجيل بإسقاط نظام كاسترو عبر تشديد الحصار عليه وفرض عقوبات في حق الشركات الأجنبية وليس فقط الأميركية التي تجري معاملات تجارية مع كوبا. وتطلب الأمر 22 عاماً أخرى لكي تكتشف الدولتان في أول حوار جاد بينهما برعاية الفاتيكان إمكان فتح الباب الذي ظل موصداً أمام حل صراع طال أمده. وتبين مجدداً أن اللجوء إلى الحوار في وجود إرادة سياسية يتيح تسوية صراعات تبدو غير قابلة للحل. وليست هذه هي المرة الأولى التي يتبين فيها ذلك. فكم من صراعات دولية وإقليمية كبدت البشرية خسائر شتى، وأنتج بعضها حروباً عانى ملايين الناس آلاماً لا نهائية من جرائها، حُلت عندما جلس أطرافها إلى مائدة الحوار والتفاوض وهم راغبون في البحث عن تسوية. ومع ذلك، ما زال استيعاب الدروس الثمينة، التي تنطوي عليها تجارب لا حصر لها في هذا المجال، مستعصياً إلا فيما قل أو ندر. وما برحت عقلية المباراة الصفرية التي تتعارض مع مستوى التقدم الذي بلغته البشرية قائمة في معظم الصراعات بدرجات متفاوتة. ولم يترسخ بعد مبدأ قبول الآخر والاستعداد للتعايش معه مهما كانت الخلافات أو حتى التناقضات، على رغم أن الكثير من الصراعات التي يسعى أحد طرفيها أو كلاهما إلى إخضاع هذا الآخر ينتهي بإدراك عدم إمكان ذلك فضلاً عن عدم ضرورته أصلاً. كما لم تتحقق البشرى التي حملها انتهاء الحرب الباردة بأن يكون للاقتصاد والتجارة بما يتطلبانه من تعاون أولوية على السياسة بما تنطوي عليه من صراع، وبأن تحرير العلاقات الاقتصادية والتجارية سيؤدي إلى نظام عالمي أكثر سلاماً وأقل صراعاً وتوتراً. فما زالت هذه البشرى بعيدة نتيجة استمرار تغلب السياسة على الاقتصاد وارتهان العلاقات التجارية للصراعات السياسية، وتواصل اللجوء إلى سلاح المقاطعة الذي يتعارض مع جوهر مبدأ تحرير التجارة. وتم في هذا السياق تشديد العقوبات الاقتصادية على كوبا، في الوقت الذي كانت بشرى تحرير العلاقات التجارية على المستوى العالمي في أوجها. ومع ذلك تمثل المصالحة التي بدأت واشنطن وهافانا تتجهان إليها اختباراً جديداً لدور العلاقات الاقتصادية والتجارية في تحقيق التعايش بين دول مختلفة ومتعارضة في اتجاهاتها، وخاصة بعد أن أصدرت كوبا قبل شهور قانوناً للاستثمارات الأجنبية في محاولة لإخراج اقتصادها الضعيف من الحصار المضروب عليه.