كان عام 2011 العربي مفصلياً. لا أحد يستطيع الانكار. وبمقدار ما أحب كثيرون اسمه «الربيعي» بمقدار ما كره كثيرون انقلابه الخريفي. كانت الحكومات تشكو، قبل الشعوب، ولو بمنطلقات مختلفة، من وضع سابق لم يعد مقبولاً. فالحكومات استشعرت أنها في «خواء استراتيجي» مقضّ للمضاجع، مع تلاشي تأثيرها مجتمعة أو منفردة في مسار العالم العربي، وتراجع صدّها ومواجهتها لتحديات وتدخلات خارجية كانت موجودة على الدوام لكنها تزايدت وبالغت في التغوّل. أما المجتمعات فكانت في حال غليان، ذاك أنها صبرت طويلاً على تدهور أحوالها الداخلية، لكن رصيد الصمت لديها نفد، فهي رضخت لأولوية "الشأن القومي" أو بالأحرى "الأمن القومي"، كما قدّمته حكوماتها، وقبلت على مضض احتجاز حرياتها وطمس حقوقها، ثم تبيّنت أنها كانت تدفع دائماً ثمن هدفٍ كامنٍ في وجدانها ولم يكن على أرض الواقع سوى وهمٍ أو خواء. بمعزل عما حصل فعلاً وكيف حصل في ذلك العام، لا يمكن القول إنه ما كان يجب أن يحصل اطلاقاً. فالحراك كان معبّراً، أولاً وأخيراً، عن نتاج مخزٍ وفاشل لعقود عدة أُنفقت فيها كل الثروات لتأمين "الدفاع عن الأمة" وكل الهبات والمساعدات والقروض على ما يُفترض أنه بناء مؤسسات ومقوّمات اقتصاد وتنمية بشرية. بل عبّر ذلك الحراك خصوصاً عن أن الأنظمة السابقة أخفقت في استصلاح تجربتها وتقزّمت طموحاتها إلى مجرد الحفاظ على ذاتها. ويتبيّن من مراجعة بدايات الانتفاضات الشعبية، في تونس ومصر وحتى في سوريا، أن العلّة الأساسية لم تكن في استخدام النظام للعنف وانما في عجزه عن التقاط رسائل واضحة لا تدعو الى إسقاطه بل إلى اصلاح الحُكم. وفي حالات قليلة، كما في المغرب وعُمان وحتى في الأردن، حيث ذهب الحُكم أبعد مما بلغه الشارع، أمكن احتواء التطورات. وكلما أمكن التقدّم بمبادرات جريئة كلما أمكن اقناع الشعوب بالحفاظ على الاستقرار. كان يمكن 2014 أن تكون سنة بداية تصحيحية لولا أن ظهور الوباء "الداعشي" في قلب الشرق العربي أعاد عقارب الساعة إلى الوراء، فيما يمضي الصراع الليبي الداخلي في اقلاق المغرب العربي من الإرهاب "القاعدي" - "الداعشي" المستشري، وكما لو أن تغلغل "القاعدة" في اليمن لم يكن كافياً حتى جاء "الغزو الحوثي" ليفاقم المخاطر في منطقة الخليج العربي. ومع ذلك لعلها كانت أيضاً، وبالتزامن، سنة تصحيحية. حدثان شكّلا الفارق في مصر وتونس، حيث أكد المجتمع أنه لم يقبل النهج التجريبي الذي باشره الاسلاميون في الحكم، ولا النموذج الذي أرادوا فرضه بالإنسلال في الدولة. وبما أنهم جزء من المجتمع كان عليهم لا أن يعمدوا -بعد الاحتجاجات ضدّهم- إلى مراجعة الأفكار والمشاريع التي اختزنوها طيلة نحو قرن من الزمن، بل إن يجروا تلك المراجعات خلال الانتفاضات وبعدها، طالما أنهم انضموا اليها متأخرين واستفادوا من التخبّط والضياع اللذين سادا المراحل الانتقالية، وظنّوا أن مخرجات صناديق الاقتراع لصالحهم كافية لأن تمدّهم بالشرعية، ويُفترض أن يكونوا فهموا الآن أن الشرعية مسألة أكثر تعقيداً ولا يمكن الحصول عليها بمجرد الاستحواذ على السلطة. هناك ملامح عملية لمراجعة أجراها إسلاميو "النهضة" في تونس تحت ضغوط الأحداث، لكن ينبغي تأكيدها على مستوى الفكر والخطاب والفصل بين الشأنين الدعوي والسياسي. في السنة المنتهية برز أمران. أولهما أن الغياب العربي (استراتيجياً) قد يغري القوى الدولية بإجراء ترتيبات لإعادة توزيع النفوذ بين القوى الثلاث المهيمنة على الاقليم، لكن هذه وصفة لإدامة الاضطراب وإبعاد الاستقرار. والآخر أن الإرهاب لم يعد مسألة إفراز اجتماعي عربي - اسلامي فحسب، بل غدا سلعة استخبارية تُتداول دولياً واقليمياً لتسهيل التدخلات والترويج لعروض الحماية والتسليح، فضلاً عن استغلالها كمؤشر الى "فشل الدولة" عربياً ولتبرير الحاجة الى وصايات اقليمية على العرب حتى لو كانت ممن يصنّفهم العرب أعداءً. هذه الوصايات - المكافآت هي التي حرّكت بازار الصفقات ووحّدت أعداء دوليين وإقليميين في ما يسمونه محاربة "داعش" أو انقاذ العرب وتخليصهم من "داعش". لكن هؤلاء المنقذين لن يجدوا مصلحة بعيدة المدى في ما يدّعونه، فالقضاء على الإرهاب يعني أيضاً القضاء على ما ساهم في إضعاف العرب وتعجيزهم. وسواء فعلوا أو لم يفعلوا، فإن رفض "داعش" ماضٍ في بلورة وعي عربي جديد بما هو الإسلام، وما يجب أن يكون، وهذا التوجه إذا استمر وتجذّر سيشكّل الهزيمة الحقيقية للارهاب.