بقي يوم واحد على حلول السنة الميلادية الجديدة، وهي مناسبة لكل لبيب متفحص أن يسبر أغوار واقع وطننا العربي المرير، وينزع عن وجهها الأخبار المتلاحقة بحثاً عن الأسباب والعلل، وعن القواعد البنيوية الثابتة المتحكمة بالأمور المتحولة. فلقد مرت أربع سنوات على بداية حركات الاحتجاج والتغيير بعدة دول عربية، البعض منها طالبت برؤوس النظام وأهله والأخرى طالبت بالإصلاح. وفي كل تلك الدول طالبت القوى الحية بطريقة غير مباشرة استبطان فكرة الدولة وتوطينها في النسيج الثقافي والنفسي وتحويلها إلى ملكية عمومية وإخراجها من مدار الاحتكار والاستئثار الفئوي باسم شعار أو مبدأ سلطوي لا يحظى بالقبول والإجماع، ولكن الرياح تجري بما لا تهوى السفن في الكثير من تلكم البلدان. فقد توالت ثلاث ظواهر: دول وصلت إلى بر الأمان بفضل الميثاق السياسي والتعاقدي بين النخبة السياسية في الحكم والنخبة السياسية في المعارضة، ورغم وصول حزب إسلامي إليها (وأعني هنا المغرب) فإن النضج السياسي ومتانة القشرة الحامية للبلد والمؤسسات مكّن الفاعلين الجدد من العمل داخل مجال سياسي سليم دون زج الدين في السياسة، وأظن أن هذه المسألة مهمة يجب أن يفقهها جيداً الفاعلون الإسلاميون في المغرب، علّهم يتحولون من حزب إسلامي إلى حزب "يميني محافظ"، تكون التجربة المغربية مثالاً يحتذى به. أما الظاهرة الثانية، فهي دول نقل بعض الفاعلين فيها مكائد السياسة ودناءة أساليبها إلى ساحة الدين، وباشروا أمور الإسلام بألاعيب الأحزاب وجعلوا من التدنيات السياسية والتلاعبات الحزبية ُمثلاً دينية عليا، واكتسبوا من ضيق الأفق شدة، وازدادوا من ضحالة الفهم صلابة، ومن كثرة المغالطات وهماً بالصحة، واستفادوا من توالي التوكيد خيالاً بالسلامة، واكتسبوا من تكرار الألفاظ بريقاً كاذباً وتصوروا من استمرار رفع الشعارات تحقيقاً قريباً للآمال والأحلام، ومما زاد الطين بلة هو التحاق الجهاديين التكفيريين بالقاطرة لتصل عملية التطرف والعنف والإرهاب مداها. والظاهرة الثالثة هو اجتماع "الميليشيات الجهادية" و"الميليشيات الإيرانية" في سلة واحدة في العديد من الدول، كما هو حال العراق وسوريا واليمن. فشباب وفئات المجتمع الواسعة التي خرجت إلى الشوارع للمطالبة بتغيير المنكر السياسي، فتحوا المجال لفاعلين لم يفهموا حقيقة السياسة وأهلها، وباشر بعضهم قواعد الانتخابات دون أن يفهموا معنى هذه المباشرة حيث تكون فيها السلطة ملكية عمومية، ومجالاً مفتوحاً للمشاركة، وأداة للتداول الحر، متحررة من الاحتكار الاستبدادي، والاستئثار الفئوي والفردي والقداسة المصطنعة. أما الجهاديون فمسألة أخرى، فقد تداخلت عوامل داخلية وخارجية دفعتهم للاصطدام بكل آليات المجتمع معتبرين أن قيم الثورات في نقيض تام مع الشرع والشريعة والحاكمية والخلافة والدولة الإسلامية... وهم الآن في دول كليبيا وسوريا والعراق يصدرون فتاوى يشنون فيها حروباً على الديمقراطيين والعلمانيين، بل وعلى كل عقل سياسي ومجتمعي متحرك إلى أن وصلت أمصار إلى حالة "اللادولة"؛ أما الإيرانيون فقد قصدوا من وراء تدخلاتهم منذ البداية تقويض التحول السياسي في العراق وسوريا واليمن ولبنان. فظهر الجهاديون باسم الإسلام السني وظهرت الميليشيات المدعومة من إيران، واشترك الطرفان الجهادي السني والجهادي الشيعي المدعوم من إيران في وقف عجلة الحياة السياسية في تلكم البلدان. هذا دون نسيان أن تفتت بعض البلدان كالعراق كان نتيجة لمشروع وطني أراد الفاعلون في المجال السياسي قيامه على مشاريع طائفية فكان مدفنه من هذه المشاريع الطائفية، والطائفيات لا تبني وطناً ولا دولة مدنية وإنما تبني خراباً وعقاباً وثأراً واقتصاصاً وتهميشاً للخصوم ونهباً للثروات وتفرداً بالسلطة وحرباً أهلية، وتولد فآت ضالة ومضلة كـ«داعش» و"جبهة النصرة" والقائمة تطول، والذي أخاف منه على المدى المتوسط ليس فقط هو كيفية القضاء على "داعش" أو الإطاحة بالأسد، ولكن كيف لا نخرج على "قاعدة قبول الآخر" لأن ترميم الأوطان من أصعب المسائل وأعقدها، واندمال الجرح قد يحتاج إلى أجيال في حالة اللادولة والانقسام والتفتت الماسكة بخناقها. آخر الكلام: في تحليل جدي قامت به مجلة "الإيكونومست"، إشارة إلى أن التعددية والتعليم والأسواق الحرة: كانت قيماً عربية قديمة، ويمكن أن تعود كذلك، وفيما يتصارع السُنة والشيعة اليوم (وغيرها من المعضلات)، تبدو هذه القيم آمالاً بعيدة المنال على نحو مأساوي، لكنها لا تزال تشكل رؤية بمستقبل أفضل لأُناس يعيشون أوضاعاً فيها الكثير مما لا يشتهون.