تقدر حالياً نسبة مستخدمي الإنترنت حول العالم بحوالي 39 في المئة من أفراد الجنس البشري، أي ما يقارب 2,8 مليار شخص، بناء على تقدير أن عدد سكان العالم قد تخطى مؤخراً حاجز الـ7,1 مليار، وترتفع نسبة المستخدمين هذه في الدول الصناعية والغنية لتصل إلى 77 في المئة. وبالتزامن مع هذه الأعداد من مستخدمي الإنترنت انتشر تملك واستخدام أجهزة الحاسب الآلي، حيث يقدر عدد أجهزة الحاسب الآلي في الولايات المتحدة وحدها بأكثر من 220 مليون جاهز حالياً، وفي الصين يتوقع أن يبلغ عدد أجهزة الحاسب الآلي بحلول عام 2015، أكثر من 500 مليون جهاز. هذا بالإضافة إلى حوالي 240 مليون هاتف ذكي يتم بيعها كل ربع سنة -قرابة المليار هاتف ذكي في العام الواحد- و حوالي 200 مليون جهاز حاسب لوحي (Tablet). وبالنظر إلى هذه الأرقام، يمكن بسهولة إدراك حقيقة أن الجنس البشري خلال العقدين الأخيرين، قد تعرض لطوفان من أجهزة الحاسب الآلي، وسيل من شرائح ورقائق معالجات الكمبيوتر (Processors)، داخل أجهزة ذكية متعددة الأنماط والأشكال، وهو ما ترك صدى وآثاراً واسعة على مقدرات المجتمعات الحديثة بجميع جوانبها، الاقتصادية، والاجتماعية، والمعلوماتية، والسياسية، والصحية أيضاً. وهذا الجانب الأخير، أي الجوانب الصحية، أصبح على قدر من الأهمية من المنظور الطبي، إلى درجة صياغة مصطلح علمي جديد لتوصيفه وحصره، هو «المشكلات الصحية الناتجة عن الكمبيوتر»(Computer-induced medical problems)، الذي يشير بوجه عام إلى مجمل المضاعفات الصحية السلبية التي قد تنتج عن استخدام أجهزة الحاسب الآلي لفترة طويلة، أو استخدامها بشكل خاطئ، حتى ولو لفترات قصيرة. فبخلاف منظومة النفق الرسغي، والآثار السلبية على الهيكل العظمي والجهاز العضلي، يمكن للاستخدام المفرط أو الخاطئ للكمبيوتر أن يتسبب في مضاعفات حيوية أخرى بالغة الخطورة. فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسة أجريت على 10 آلاف موظف وعامل في اليابان، يستخدمون جميعهم الكمبيوتر يومياً بشكل مكثف ضمن نطاق عملهم أو حياتهم اليومية، أن الإفراط في استخدام الكمبيوتر مرتبط بشكل ما بزيادة احتمالات إصابة العين بالجلوكوما أو المياه الزرقاء، وخصوصاً بين الأشخاص قصار النظر. وعلى المنوال نفسه، أظهرت دراسة أجريت في نيوزيلندا، أن الجلوس لساعات طويلة أمام شاشة الكمبيوتر، قد يؤدي إلى الإصابة بجلطة دموية قاتلة تنشأ في الساقين. وتحدث هذه الحالة -ضمن أسباب أخرى عديدة- نتيجة انعدام الحركة في الساقين لفترة طويلة، مما يسبب ركود الدم وزيادة لزوجته، ومن ثم تجلطه، وهو ما يؤدي إلى انسداد الأوعية الدموية، والوفاة أحياناً. ومؤخراً أثبتت دراسات مماثلة أن حتى التركيب الوظيفي للمخ، يتأثر باستخدام مثل تلك الأجهزة. وإحدى تلك الدراسات التي نشرت مؤخراً في إحدى الدوريات العلمية المرموقة (Current Biology)، وبالاعتماد على أجهزة رسم المخ الكهربائي، اتضح فيها وجود فروقات واضحة في نشاط المخ، بين الأشخاص الذين يستخدمون أجهزة الهاتف الذكية، المجهزة بشاشات تعمل باللمس، وبين من يستخدمون أجهزة الهاتف المحمول العادية. فبين من كانوا يستخدمون الهواتف الذكية ذات الشاشات التي تعمل باللمس ازداد نشاط المخ الكهربائي، عند لمس إصبع الإبهام، أو السبابة، أو الأصابع الوسطى، مقارنة بمستخدمي أجهزة الهاتف العادية. وكلما زاد الاستخدام اليومي من قبل الشخص للشاشات التي تعمل باللمس، زادت وتعاظمت استجابة المخ الكهربائية عند لمس الأصابع. وهو ما يدل على أن المخ، نتيجة تكرار استخدام حاسة اللمس، بدقة ملحوظة، ولفترة طويلة، قد تكيف وعدل من طريقة أدائه الوظيفي، استجابة للمؤثر الخارجي، تماماً كما لوحظ سابقاً مع عازفي الكمان والآلات الموسيقية الوترية، التي يزداد فيها بشكل واضح تمثيل الأصابع في القشرة المخية. وعلى المنوال ذاته أظهرت دراسة أخرى نشرت في الوقت نفسه أن استخدام الكمبيوترات اللوحية، مثل «الآي باد» وغيره، في الساعات السابقة للنوم، قد يؤدي إلى اضطراب في نسق وعمق فترة النوم. ويعتقد العلماء أن نوعية الإضاءة الناتجة عن مثل هذه الأجهزة، تثبط من إنتاج هرمون «الميلاتونين»، الذي يلعب دوراً بيولوجياً في عملية النوم، حيث تزداد مستوياته في المساء، وتصل إلى أقصاها خلال النوم. وتتوافق هذه النتائج، مع الاعتقاد الثابت لدى كثير من العلماء بأن الجلوس أمام الشاشات -بأنواعها المختلفة- يعيد تنظيم وتركيب الوصلات العصبية والكهربائية داخل المخ، وخصوصاً بين الأطفال صغار السن، ولذا يوصى بقصر عدد ساعات مشاهدة التلفزيون لمن هم أقل من عمر عامين، على ساعتين في اليوم فقط.