بدأ الرئيس التونسي الجديد «الباجي قائد السبسي» حملته الانتخابية من «المنستير» واقفاً على ضريح الزعيم «الحبيب بورقيبة» الذي يحتفظ له دوماً بتمثال صغير على مكتبه، مستشهداً في حملته بعباراته وخطبه ومستنداً لمشروعه الفكري والاجتماعي الذي طبع تونس الحديثة. ومع الفارق الكبير بين الزعيم الشعبي الذي عرف ببراعته في الخطابة وتحريك الجماهير وبثقافته الواسعة وجرأته في المواقف والقرارات، ووزيره ومستشاره الذي يظهر في صورة رجل الدولة الهادئ الحذر الذي توزعت حياته المهنية بين الوظائف الأمنية والإدارية والعمل الدبلوماسي، إلا أن السبسي نجح بصفة واسعة في إبراز نفسه خليفة للزعيم الراحل الذي لا يزال بعد أربع عشرة سنة من رحيله يحظى بشعبية واسعة في بلاده حتى لدى الأوساط التي كانت تعارضه. وهكذا على طريقة بورقيبة الاستعراضية حرص السبسي خلال الحملة الأخيرة على زيارة الأحياء الشعبية والزوايا الصوفية، وحاول استخدام أسلوب بورقيبة التهكمي، بل ظهر في «المنستير» مرتدياً نظارات سوداء على طريقة بورقيبة، وعندما سئل عن السبب اكتفى بالقول إنه احتمى بها من وهج الشمس، وفي كل الأحوال لكل من الاثنين نظاراته. بيد أن رئيس تونس الجديد يدرك بقوة الاختلاف الجذري بين الظروف التي وصل فيها زعيم الاستقلال للسلطة وحكم فيها البلاد والوضعية الحالية، التي لا يمكن أن تدار بمنطق الزعيم الأوحد و«المجاهد الأكبر»، فهو وإنْ كان يضع مشروعه السياسي في الأفق التحديثي للبورقيبية بمكاسبها المجتمعية التي يتعين توطيدها، فإنه يرى أن إخفاءها الأكبر هو العجز عن نقل البلاد إلى الديمقراطية التعددية، التي كان بإمكانها تحصين التجربة الرائدة من الانتكاسة التي حدثت مع انقلاب 1987 الذي أوصل بن علي للسلطة. في كتابه حول بورقيبة الذي صدر سنة 2009، يذكر السبسي كيف أقاله بورقيبة عام 1974 في إطار صراع داخلي شرس في الحزب الدستوري الحاكم بين الجناح المتشدد الرافض للانفتاح السياسي، والجناح الليبرالي الذي كان أحد أركانه، ولم يعد للسلطة إلا سنة 1980 في حكومة «مزالي»، التي أقرت أوانها إجراءات ملموسة في تكريس التعددية السياسية. ومع إعجابه ببورقيبة الذي يعد بإرجاع تمثاله إلى الشارع الذي يحمل اسمه في وسط المدينة الى جانب علامة تونس «ابن خلدون»، يعترف بصراحة أن زعيم الاستقلال لم يكن ديمقراطياً رغم تشبعه بثقافة الأنوار الأوروبية وتأثره بالفكر الليبرالي الغربي في المناحي الثقافية والاجتماعية. لم يكن أحد يعتقد أن السياسي العجوز الذي انسحب من الحياة السياسية في نهاية الثمانينات، وقاد لمدة سنة المرحلة الانتقالية التي تلت ثورة يناير 2011 التي أطاحت بالرئيس بن علي، سيعود إلى مركز الحكم بعد سنوات ثلاث عاصفة هيمنت فيها حركة «النهضة» الإسلامية على المشهد السياسي. فعندما أسس السبسي حزبه «حركة نداء تونس» في منتصف 2012، لم تكن حظوظها في الوصول للحكم كبيرة، رغم أن استطلاعات الرأي كانت تؤهل زعيمها لمركز متقدم في سباق غير محسوم النتائج سلفاً. الحزب الذي تشكل من بقايا الدستوريين من غير المقربين من حاكم تونس المخلوع وبعض الزعامات النقابية واليسارية بدا تشكيلة نشازاً غير متناسقة ولا قادرة على استقطاب القاعدة الشعبية العريضة التي انساقت في غالبيتها لتيار الإسلام السياسي والمجموعات الثورية الراديكالية، بيد أن حنكة السبسي ضمنت للحزب الوليد الاستمرار والانسجام، وآمنت له الفوز في الانتخابات التشريعية المنظمة في أكتوبر الماضي وفي نهاية المطاف انتزاع المنصب الرئاسي. ولا شك أن التحدي الأول الذي سيواجهه الرئيس الجديد بعد دخوله قصر قرطاج هذا الأسبوع، هو تضميد الجراح المؤلمة التي خلفتها الحملة الأخيرة، وفي مقدمتها أحداث العنف والفوضى المستمرة في جنوب تونس، الذي انحاز في أغلبه لابنه «منصف المرزوقي» المرشح المهزوم في الانتخابات. هنا تتكرر المقارنة بين السبسي وبورقيبة الذي عاني في بدايات حكمه من معارضة الحركة «اليوسفية» المتجذرة في مناطق الجنوب. فكلا الرجلين ينتمي إلى النخبة «المدينية» التونسية الساحلية التي انحدرت منها أبرز الشخصيات السياسية والبيروقراطية التي حكمت تونس منذ استقلالها. وبالإضافة إلى هذا التحدي السياسي الأمني الذي يواجهه مدير الأمن ووزير الداخلية الأسبق في عهد بورقيبة، يبقى تشكيل حكومة ائتلافية مستقرة وقادرة على اعتماد قرارات إصلاحية جذرية تحدياً آخر عصياً، باعتبار محدودية وصعوبة الاختيارات المتاحة للرئيس الجديد في الاختيار بين الكتلتين الكبيرتين في البرلمان الجديد: الكتلة الإسلامية والكتلة اليسارية، اللتين تختلفان من حيث التوجه مع المشروع الليبرالي الاجتماعي الذي طرحته حركة نداء تونس.