ما زالت آسيا تعطي الدرس تلو الدرس للآخرين من دول وشعوب وتنظيمات. وآخر هذه الدروس كان في بداية ديسمبر الجاري، وهو درس يصلح لحركات المعارضة العربية من تلك التي تعمل بمنطق «عنزة ولو طارت» أي التي لا تعمل وفق المنطق والعقل، ولا تأخذ في الاعتبار حين اتخاذ القرار العوامل والظروف الداخلية والخارجية، بل ترى نفسها معصومة من الخطأ، فلا تعترف بذنب، ولا تراجع أجندتها ولا تضخ دماء جديدة في قيادتها، ولا تعالج شبكية عينها المعطوبة. أما مصدر الدرس الآسيوي الجديد هذه المرة فهو هونج كونج التي شهدت الكثير من حركات الاحتجاجات الشعبية ضد سلطتها التنفيذية الخاضعة لأوامر وسياسات زعماء بكين، منذ أنْ أعادتها بريطانيا إلى الصين في يوليو 1997، لكن التي لم تشهد احتجاجاً شعبياً منظماً وعصياناً مدنياً وإضراباً عن العمل والطعام بقيادة حركة معارضة معروفة الزعامة، إلا في الآونة الأخيرة، وتحديداً في سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر من العام الجاري. فابتداء من سبتمبر المنصرم خرج عشرات الآلاف من المتظاهرين المنادين باعتماد نظام انتخابي يتيح لهم أنْ يختاروا بحرية تامة رئيس حكومتهم المحلية في الانتخابات المقرر إجراؤها في عام 2017، وباستقالة رئيس الحكومة المحلية الحالي «ليونج تشون ينج» المنعوت بـ«دمية بكين» (وافقت بكين على مبدأ الاقتراع العام لانتخاب الرئيس المقبل للحكومة المحلية في الجزيرة، إلا أنها تُصر على التحكم بمسار الانتخابات من خلال لجنة حكومية مهمتها النظر في أهلية المرشحين)، إلى شوارع المستعمرة البريطانية السابقة، وقاموا بإغلاق المباني الحكومية والطرق الرئيسية بالمتاريس في خمس مناطق رئيسية تشكل عصب المال والأعمال والتجارة والسياحة. هذه التطورات، التي قابلتها السلطة بالعنف المفرط والغازات المسيلة للدموع ومسحوق الفلفل والاعتقالات، أطلقت عليها أسماء مختلفة مثل «ثورة احتلوا وسط هونج كونج»، حيث وسط الجزيرة يمثل شريان الحياة الاقتصادية ومركز المال والاعمال، و«ثورة المظلات» كناية عن حمل المتظاهرين للشمسيات إتقاء للمطر وهراوات الشرطة، و«ثورة غضب الطلاب» على اعتبار أن محركها الرئيسي كان طلبة الجامعات والمعاهد. وعلى الرغم من ادعاء البعض أن احتجاجات هونج كونج كانت عفوية، وأنها ازدادت ضراوة بعد استخدام الشرطة للعنف، فإن تطورات الأمور سرعان ما كشفت خلاف ذلك، حينما برز عدد من الشخصيات المحلية كقادة مؤسسين للحركة الاحتجاجية ومحرضين عليها. وهؤلاء هم: بيني تاي (أستاذ القانون المساعد بجامعة هونج كونج وصاحب فكرة احتلال وسط الجزيرة بالحشود الجماهيرية المعروفة باسمها الانجليزي «أوكيوباي سنترال»، وهو في الخمسين من العمر، ويوصف بأنه الأكثر اعتدالًا ضمن رفاقه، وسُجل عنه قوله إنه ليس ضد الحزب الشيوعي الحاكم في بكين، وإنما يسعى فقط إلى الحفاظ على خصوصية جزيرته لجهة الحريات وأسلوب الحكم الديمقراطي). و«تشان كين مان» (أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الصينية في هونج كونج، وهو من مؤسسي حركة أوكيوباي سنترال)، و«تشو يو مينج» (رجل دين مسيحي، ومن مؤسسي حركة أوكيوباي سنترال أيضاً، وعـُرف عنه دفاعه عن سجناء الرأي في البر السياسي) إضافة إلى«جوشو وونج» (طالب جامعي في سنته الأولى، ويبلغ من العمر 17 عاما، ويعد من أشهر الرموز الشبابية المعارضة لبكين). و«أليكس تشاو» (رئيس اتحاد طلاب هونج كونج، وهو في الرابعة والعشرين من العمر، وتم اعتقاله وسجنه عدة مرات، ويعرف عنه معارضته لحاكم الجزيرة الحالي «ليونج شونج يينج» وتدخلات بكين في شؤون الهونجكونجيين لكن بأسلوب أكثر هدوءاً من زميله وونج). هؤلاء -بعدما شعروا أن الجماهيرية الهونجكونجية الداعمة لهم قد تضررت كثيراً وتسرب إليها الملل بفعل ازدحام الشوارع واضطراب النقل العام واغلاق المدارس والمحال التجارية، وأحسوا أن الأمور قد تخرج عن أيديهم فتسقط في أيدي جماعات أكثر راديكالية، ناهيك عن شعورهم بالخوف من احتمال إقدام الجيش الأحمر الصيني على ارتكاب مجزرة ضد مواطنيهم شبيهة بمجزرة ساحة «تيان إن مين» في بكين في يونيو 1989، وتيقنهم من أن بكين ليست في وارد تقديم أي تنازلات خوفاً من أن تمتد الصحوة الديمقراطية إلى البر الصيني- قرروا في الثاني من ديسمبر الجاري أنْ يسلموا أنفسهم للشرطة، ويدعوا أنصارهم من المتظاهرين والمعتصمين إلى التفرق حفاظاً على دمائهم واجسادهم المتكسرة «كي لا تزداد مساحة الأحزان والخسائر»، قائلين إنهم يفعلون ذلك التزاماً بدولة القانون، وبمبدأ السلام والمحبة، مضيفين أن «الاستسلام ليس عملاً جباناً وليس تعبيراً عن الفشل وإنما عمل يهدف إلى منح النفس فترة من التأمل والمراجعة بغية إرساء جذور عميقة في المجتمع وتغيير شكل الحراك باتجاه حركة عصيان مدني أكثر تنظيما والإتفاق على ميثاق عمل اجتماعي وتربوي جديد». وبطبيعة الحال فإن مثل هذه الوقفات مع النفس في أعقاب الفشل في تحقيق الأهداف غير وارد، بل هو نادر، عند بعض القوى السياسية العربية التي تطلق على نفسها اسم «قوى المعارضة». ولا نبالغ لو قلنا إن هذه القوى الأخيرة مستعدة للدخول في مماحكات ومواجهات مع سلطات بلدانها، دون أي حسابات لموازين القوة، ودون أدنى مراعاة لمصالح شعوبها اليومية التي قد تتعطل بسبب نزواتها وأحلامها السلطوية. ـ ـ ـ ـ باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين