أصدر المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما كتابين عامي 2012 و2013؛ في أولهما قرأ تاريخ الأنظمة السياسية وعلائقها بفكرة الدولة. وما أثار الكتاب نقاشاتٍ واسعة بالنظر لطابعه الأكاديمي والمدرسي، ولأن في السوق النشري كتباً أُخرى مماثلة أو متقدمة عليه. أما الثاني فموضوعه النظام السياسي في مجالي النجاح والتنازُع. ولأنه يعالج الأنظمة السياسية الحديثة والمعاصرة، ويحاول وضع مقاييس للنجاح والفشل؛ فإنّه لا يزال يثير نقاشات واسعة في أوساط المختصين والمهتمين. لاحظ فوكوياما أن الأنظمة السياسية في أوروبا وأميركا وشرق آسيا، تُعاني من مشكلات بنيوية رغم نجاحها الظاهر والمستمر. فالأجيال الجديدة تضغط باتجاه تغييرات نوعية تتعلق بتوسيع المشاركة أو المسير نحو التشاركية التي تستوعب الاحتياجات الجديدة للمجتمع المدني وقواه المترجرجة والصاخبة أحياناً، لاسيما في الولايات المتحدة ودول المجتمعات الآسيوية الكبرى والوسطى. وهو يُعطي إجابات سريعة في هذا المجال تحت العنوان العريض لمسائل «الدمقرطة» أو فتح آفاق أوسع للتوجهات الديمقراطية التي تتجاوز النجاح الاقتصادي إلى علاقات المجتمعات بالأنظمة السياسية وفكرة الدولة ومفاهيمها المتغيرة. في المجالات الأوروبية والأميركية والآسيوية، يلاحظ فوكوياما أنّ طرفاً وازناً لم يشكِّك في ضرورة الدولة أو النظام السياسي. لكن الأمر يختلف في المجتمعات الإسلامية، وفي بعض المجتمعات الآسيوية والأفريقية غير الإسلامية، إذ هناك ميولٌ جارفةٌ لتغيير الأنظمة السياسية. وفي بعض هذه المجتمعات رفضٌ لفكرة الدولة ذاتها. فقد قامت في تلك البلدان بعد الاستقلال أنظمة الدولة الوطنية. وهي أنظمة أمنية في الغالب. والفشل في هذه الأنظمة يشمل المسائل الاقتصادية والسياسية. لكنه يتعدى ذلك أحياناً إلى مسائل الهوية والوحدة الوطنية ومعنى الشعب والأمة. ومن الصعب أحياناً التفرقة بين الأمرين، أي متى يكون العلاج في تغيير النظام السياسي، ومتى لا يكفي ذلك لإعادة الأمن والاستقرار. ويمكن التدليل بحالتي زيمبابوي والصومال في أفريقيا. ففي زيمبابوي تشيع حالةٌ من الاضطراب سببها المباشر ديكتاتورية الفرد، والافتقار إلى النخبة السياسية البديلة. أمّا في الصومال فمنذ انهيار حكم الفرد (1992-1994) لم يتأت إقليمياً ودولياً إعادة النظام هناك، حيث تسود التنظيمات المسلَّحة القبلية والدينية. والسؤال: هل إذا زال حكم الفرد في زيمبابوي؛ فإن النظام السياسي البديل قادر على إعادة لَمّ شتات المجتمع؟ أما في الصومال؛ فالأمر يتجاوز ذلك قطعاً، لأن كل المحاولات فشلت رغم الاستبدالات الكثيرة في الصَيَغ! فوكوياما صاحب الكتاب الشهير «نهاية التاريخ» لا يمتلك أُصولية منافسه الراحل هنتنغتون صاحب «صراعات الحضارات». وهو لذلك لا يقيم فواصل بين المجتمعات الإسلامية وغيرها. ولأنه يعتبر أن الدولة هي التي تصنع الأمة أو الشعب؛ فإنّه ما يزال يعتبر النظام السياسي المرن والناجح اقتصاداً أولا، وإدارة سياسية ثانياً، يمتلك قدرات في مجال توحيد المجتمعات، وصنع انتظام يربـط سائر الفئات من خـلال السوق الواحـدة، والمصالح المشتـركة، والمجـال العـام المتوسّـع استنـاداً للأمرين. ومن هذا المدخل -وليس مدخل الدين أو القومية- يريد النظر في طرائق حلّ المشكلات المتفاقمة في بلدانٍ مثل العراق وسوريا وليبيا واليمن، فهي جميعاً تُعاني من المشكلات التي خلقها النظام السياسي الفاشل والذي أوصلَ بعض الفئات إلى حدود رفض فكرة الدولة. واستناداً إلى هذه الملاحظات المتناثرة في تلافيف الكتاب، لا يزال الرجل يرى أملا لعودة الانتظام إلى بلدان الفوضى الحالية، إذا توافرت لها النُخَبُ السياسية المُصرّة على وحدة التراب الوطني، والمصرةّ على إشراك سائر الفئات في إدارة الشأن العام. صحيح أن أوروبا الاستعمارية، والولايات المتحدة الإمبريالية، صنعتا العالم السياسي والاستراتيجي الحديث، وأقامتا النظام العالمي الحاضر. لكن نُخَب المجتمعات والدول هي المسؤولة اليوم عن إقامة الأنظمة السياسية الناجحة التي تثبّت فكرة الدولة، وتربط فئات الداخل ببعضها، وتعين على التواصُل ضمن المجتمع العالمي. ------------------- أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت