تحتل مدينة بيت لحم الفلسطينية مكانة كبيرة في أذهان كثيرين. فعلى مدار أجيال، كانت المشاعر التي أثارتها تلك المدينة مواضيع لأشكال فنية متعددة، تلهم المؤمنين وغير المؤمنين برسالة أمل ووعد بحياة جديدة. ولأولئك الذين لا يعرفون المكان، تمتلك بيت لحم، ميزة خالدة مستلهمة من تلك الأعمال الفنية. فهي مكان للغموض والتناقضات. وهي مدينة صغيرة مسالمة لعبت دوراً كبيراً في التاريخ: فهي في موطن ميلاد عيسى عليه السلام. وبالنسبة لملايين المسيحيين في أنحاء العالم، فهذه هي الصور التي تعرف بها بيت لحم. ولكن المثير للأسى أن جل ذلك في الواقع ليس إلا خيالاً، لأن ضغوط الحياة اليومية التي يواجهها سكان هذا المجتمع التاريخي ترسم صورة مختلفة جديرة بالملاحظة. وتتعرض مدينة بيت لحم الواقعة تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي منذ عام 1967، للاختناق ببطء، إذ تخسر أراضيها لصالح بناء المستوطنات، ويطوّقها جدار فصل خرساني عنصري بارتفاع 30 قدماً، وباتت مجردة من مواردها، وحرمت من الوصول إلى الأسواق الخارجية. ونتيجة لذلك أصبح ربع سكان المدينة عاطلين عن العمل، في حين أن 35 في المئة منهم يعيشون تحت خط الفقر. وقبل الاحتلال، كان آلاف الفلسطينيين في بيت لحم يعملون كحرفيين مشهورين عالمياً بأعمالهم الفنية من خشب الزيتون والمشغولات اليدوية. وأما الآن، فلا يعمل سوى بضع مئات في هذا القطاع، بسبب الحرمان من حرية التصدير والأضرار التي سببها عدم الاستقرار الناتج عن الاحتلال. وبالمثل، تضررت السياحة في بيت لحم، فالشركات الإسرائيلية التي تهيمن على هذا المجال تجلب السياح للإقامة في الفنادق الموجودة داخل المناطق التي تسيطر عليها، ولا تقيم سوى رحلات يومية إلى الأماكن المقدسة في المدينة. وبالطبع، تزور حشود المدينة، ولكن الإيرادات تذهب إلى جيوب الإسرائيليين! وعلاوة على ذلك، خسرت المدينة مساحات كبيرة من الأراضي بسبب المصادرات الإسرائيلية من أجل البناء الاستيطاني، ولأنه لم يعد يمكنها التوسع أفقياً، يجب التوسع رأسياً. ونتيجة لذلك، أضحى ما تبقى من بيت لحم مزدحماً، مع وجود اختناقات مرورية في الشوارع الضيقة. وكثيراً ما يشتكي المسؤولون الإسرائيليون، ويشيرون إلى أنهم لابد أن يوسعوا المستوطنات بحيث يجد شبابهم مساكن. ويصرون على أنهم لابد أن يواصلوا بناء جدارهم، من أجل حماية شعبهم الذي يعيش في تلك المستوطنات غير الشرعية! ولكن ما لا يقولونه هو أن التوسع في مشاريعهم التوسعية يأتي على حساب حياة الفلسطينيين في منطقة بيت لحم. ويطلق الإسرائيليون على هذه المستوطنات اسم «أحياء القدس»، وهذه ليست سوى محاولة وقحة لتغيير واقع قيامهم بالبناء على أراضي بيت لحم، التي تصادرها إسرائيل بصورة غير شرعية، ثم تضمها بصورة أحادية إلى ما تصفه بـ«القدس الكبرى»! ونتيجة لذلك، يحتفظ الفلسطينيون في الوقت الراهن بسيطرة محدودة فقط على نحو 13 في المئة من منطقة بيت لحم، بينما لا يزال الإسرائيليون يهددون بمصادرة المزيد. وفي الحقيقة، فإن المستوطنات الـ22 التي بنيت في منطقة بيت لحم، والطرق التي تربطها والجدار الذي يحميها كلها، شيدت على أراضٍ صودرت من الفلسطينيين. وخطط التوسع الجديدة لبناء منازل خاصة لليهود وتوسيع جدار الفصل العنصري تعني أن مزيداً من الأراضي ستتم مصادرتها. وإذا نظرنا إلى الخريطة سنجد أن بيت لحم لا تبعد عن القدس سوى أميال قليلة. وخلال العشرين عاماً الماضية، كان يمكن للشخص الذي يقف بالقرب من ميدان «المهد» الاستمتاع بالنظر إلى منطقة جبل أبوغنيم الخضراء، ورؤية المدينة المقدسة. وكانت الرحلة تستغرق ما بين 15 و20 دقيقة. ولكن اليوم باتت تعوق ذلك المشهد 30 جداراً، وتحولت المنطقة الخضراء، التي كانت تتنزه فيها الأسر الفلسطينية، إلى موقع لمستوطنة خرسانية عملاقة تؤوي 25 ألف إسرائيلي. ونتيجة لهذه المستوطنات، والطرق المخصصة لليهود فقط، وجدار الفصل العنصري، نشأ جيل كامل من الشباب الفلسطينيين الذين لم يذهبوا أبداً إلى القدس. وليس ذلك فحسب، ولكن عزل الشعب بأكمله أيضاً عن عاصمته التي كانت وجهة للحصول على الخدمات الطبية والاجتماعية والتعليمية والأسواق ومصادر العمل وأماكن الثراء الثقافي والروحي. وأصبح كل ذلك بعيداً عن منالهم. وفي الوقت الراهن، يصل تعداد السكان الفلسطينيين في منطقة بيت لحم نحو 210 آلاف نسمة، وهناك ما يربو على 110 آلاف مستوطن إسرائيلي، مع وجود خطط لمضاعفة هذا العدد في المستقبل القريب. وفي مواجهة ذلك الاعتداء الإنساني، توجه الفلسطينيون بقضيتهم إلى المحكمة الدولية التي حكمت بأن بناء المستوطنات والجدار غير قانوني، وانتهاك واضح للقوانين الدولية الموضوعة بعد الحرب العالمية الثانية لحماية حقوق الشعب الذي يعيش على أراضٍ محتلة في زمن الحرب. ورداً على ذلك، تواصل إسرائيل بناء المستوطنات دون رادع، بمساندة أميركية، بهدف نقل مواطنيها للعيش على مزيد من الأراضي الفلسطينية. -------- رئيس المعهد العربي الأميركي - واشنطن