فاجأ الرئيس الأميركي باراك أوباما معظم الناس بإعلانه يوم 17 ديسمبر التوصل لاتفاق مع راؤول كاسترو على تطبيع بعض جوانب العلاقات الأميركية الكوبية، ووقفت الحكومات الأميركية في مواجهة كوبا لأكثر من 50 عاماً. وفرض الجانب الأميركي حظراً صارماً، وحاول مراراً بطرق سرية، وأحياناً عسكرية مباشرة إسقاط النظام الكوبي، وحاول الرئيس جيمي كارتر المصالحة مع كوبا، لكن محاولته باءت بالفشل، وهيمنت سياسة الكراهية على العلاقة بين البلدين بسبب مواقف كوبا الدولية وقمعها الداخلي للديمقراطية وامتهانها للحقوق المدنية، وسفارة الولايات المتحدة في كوبا مغلقة منذ عام 1961. ولقيت المواجهة مع نظام كاسترو دعماً من الكوبيين الأميركيين بتأثيرهم الذي يتجاوز بكثير حجمهم الواقعي في السياسة الأميركية، فالكوبيون الأميركيون يشكلون جماعة مصالح سياسية صاحبة نفوذ يخشى الرؤساء ومعظم السياسيين الآخرين تحديه. ومنذ عام 1959 فر مليون كوبي، ما يمثل عشرة في المئة من سكان كوبا إلى الولايات المتحدة ومعظمهم مصمم على إسقاط نظام كاسترو، باعتبارها قضيتهم السياسية الأولية، ومارسوا ضغوطاً هائلة على واشنطن. والمهاجرون الكوبيون الأميركيون يشكلون أقل من واحد في المئة من سكان الولايات المتحدة، لكنهم يمثلون أحد أكثر جماعات الضغط نفوذاً في الولايات المتحدة التي لا يتقدم عليها إلا أصدقاء إسرائيل. فقد أقنع اللوبي الكوبي الأميركي الإدارة الأميركية عام 1985 بإنشاء راديو وتلفزيون «مارتي» لإذاعة برامج تنشر معلومات مناهضة لكاسترو داخل كوبا، لكن كوبا عرقلت إشارات البث كما كان هناك مشكلات فنية أخرى جعلت الإشارات لا تصل إلا إلى قلة من الكوبيين. وأظهرت دراسات مستقلة على مدار سنوات على هذه الإذاعات أنها لم تتمتع بجمهور تقريباً ونصحت الدراسات مراراً بإغلاقها لتوفير ملايين الدولارات لكن اللوبي الكوبي الأميركي استطاع أن يجعلها تستمر حتى اليوم، وبسبب نفوذ هذا اللوبي، فلا عجب إذن، أنه عندما أعلن أوباما عن خطوات نحو تطبيع العلاقات مع كوبا استنكر معظم أعضاء الحزب الجمهوري الإجراء. ومعارضة الكونجرس مهمة، لأنه رغم أن أوباما يستطيع اتخاذ بعض الإجراءات لتحسين العلاقات مع كوبا فلا بد من تعاون الكونجرس، والحظر الأميركي على كوبا لا يمكن رفعه دون موافقة الكونجرس. ويعتزم أوباما إعادة بناء العلاقات الدبلوماسية، لكن الكونجرس يستطيع عرقلة إرسال سفير إلى كوبا، وأحد التعقيدات التي تواجه خطة أوباما تتمثل في قاعدة بحرية أميركية في خليج جوانتانامو في كوبا، والقاعدة قائمة هناك منذ عام 1903 عندما وافقت كوبا على إنشائها، لكن نظام كاسترو طالب مراراً بإغلاقها، وسيكرر كاسترو هذا الطلب دون شك. لكن الولايات المتحدة تصر على إبقائها لأهميتها للبحرية الأميركية، ولأهمية المعتقل الذي أقامته عام 2002 لاحتجاز المشتبه بهم في الضلوع في الجرائم المتعلقة بالحرب على الإرهاب. ويؤكد خصوم أوباما أن الرئيس قدم تنازلات لنظام سياسي استبدادي دون الحصول على مقابل بإجراء إصلاحات ديمقراطية، وجادلوا أنه كان يجب على الولايات المتحدة مواصلة الحظر حتى يتحقق التغير الديمقراطي، ورد أوباما بأن الولايات المتحدة جربت هذا النهج على مدار الخمسين عاماً الماضية، ولم يجد نفعاً ولذا لابد من استخدام سياسة جديدة. وعندما جاء أوباما للسلطة أوضح أنه عازم على اتباع سياسة التواصل مع الخصوم وتجنب التدخل العسكري والوسائل العدائية الأخرى قدر الإمكان،وفي البداية دعا إلى التواصل مع سوريا وإيران وكوبا، وفشل مسعاه في سوريا. وفي إيران لم تثمر جهوده، بينما كان أحمدي نجاد رئيساً لإيران، بينما أثمرت مساعيه بعد أن جاء حسن روحاني إلى السلطة. وقبل 18 شهراً أجاز أوباما إجراء مفاوضات سرية مع كوبا تمخضت بالفعل عن اتفاق لبدء تحسين العلاقات والتخلص من العداوات المتراكمة منذ عقود، ومازال المدى الذي سيصل إليه التقارب الكوبي الأميركي في رحم المستقبل، لكن معظم الأميركيين والكوبيين يريدون تحسين العلاقات رغم أن بعض أصحاب المصالح الخاصة على الجانبين لا يريدون ذلك. ومعظم الإيرانيين ومعظم الأميركيين يريدون، بالمثل، تحسين العلاقات الأميركية الإيرانية، ويأملون أن تنجح المفاوضات الجارية. وأمام الرئيس الأميركي أقل من عامين في السلطة، لكنه يأمل أن يترك إرثاً يشهد بأنه حول بعضاً من أطول المواجهات العدائية أمداً في تاريخ الولايات المتحدة إلى مواجهات أكثر سلمية. وسيظل هناك تنافس وخلافات دوما، لكن أوباما أراد تخفيف حدتها على الأقل في العلاقات الحيوية لمصلحة الأطراف المشاركة فيها.