أعتقد كما يعتقد الكثيرون أن الفنون بأنواعها، تُمثّل عاملاً رئيسيّاً في تعريف الشعوب بثقافات بعضها، وفي تأثيرها الفعّال لكسب تعاطف الناس تجاه قضايا بعينها تشغل المجتمع الدولي. لكن هناك من يرى بأن الفنون حادت عن أهدافها النبيلة، وأنه لا يجب عليها الانسياق خلف سياسات أنظمتها، ولا ينبغي عليها استهداف دول بعينها لإرضاء حكومات بلادها! تابعتُ باهتمام الخلافات الدائرة بين الولايات المتحدة الأميركيّة من جهة، وكوريا الشماليّة من الجهة المعاكسة، بعد قيام شركة سوني الترفيهيّة بإنتاج الفيلم الكوميدي (المقابلة) والذي يدور محوره حول تجنيد وكالة المخابرات المركزيّة الأميركيّة أحد الأشخاص لاغتيال زعيم كوريا الشماليّة (كيم جونج أون). كوريا الشماليّة أظهرت استياءها بعد أسبوعين فقط من نشر فيديو ترويجي للفيلم على "يوتيوب"، وصرّحت عن طريق وزير خارجيتها الذي هدد أميركا علناً بالقول «إذا رعت الولايات المتحدة عرض الفيلم، فعليها تحمّل النتائج..». وتوعدت بالانتقام من مخرجي الفيلم الكوميدي. الممنوع مرغوب كما يُقال في كل شيء، وأسفرت التهديدات التي أطلقتها كوريا الشمالية إلى ارتفاع أسهم الفيلم وضمان عائد مادي ضخم عند عرضه، حيث حقق الشريط الدعائي أعلى نسبة مشاهدة بالعالم. وبعد أن أعلنت شركة "سوني" نيّتها وقف عرض الفيلم نتيجة التهديدات التي تلقتها، عدلت عن قرارها واستجمعت شجاعتها بإعلانها رسميّاً انطلاق الفيلم بدور السينما الأميركيّة. كوريا الشمالية انتقمت لزعيمها وقامت بقرصنة قاعدة بيانات شركة "سوني" ونشرها في هيئة تغريدات على "تويتر"، مما تسبب في الحاق أضرار جسيمة بالشركة. الولايات المتحدة الأميركيّة لم تقف مكتوفة اليدين وقامت بقطع الانترنت بالكامل عن كوريا الشمالية جرّاء فعلتها، إلا أن الصحف العالمية تُشكك في إمكانيتها السيطرة طويلاً على هذا الوضع! حقيقة لا أعرف لمَ كلَّ هذه الضجة! فقد سبق وأن أنتجت هوليوود أفلاماً تصوّر كوريا الشمالية كدولة مارقة وأنها داعمة للإرهاب، ولم تنل تلك الأفلام نجاحا كاسحاً! وهذا ينطبق على العديد من الأفلام الأميركيّة التي حاولت تشويه صورة نبينا محمد والمسلمين وأنهم جميعاً بلا استثناء إرهابيون، وساهمت المظاهرات حينها التي خرج فيها آلاف المسلمين بمعظم عواصم العالم الإسلامي احتجاجاً، إلى عمل دعاية مجانيّة لمثل هذه النوعيّة من الأفلام الهابطة المضمون! عدتُ بالذاكرة قليلاً إلى الوراء عندما أُثيرت ضجّة كبيرة في الشارع المصري بسبب فيلم (حلاوة روح)، حيث تردد بأنَّ فيه خدش للحياء بمشاهده الخليعة. رئيس الوزراء المصري أضطر أيامها إلى وقف عرض الفيلم بدور السينما المصرية، رغم أن الفيلم بإجماع النقّاد ضعيف فنيّاً، ولولا وجود الفنانة هيفاء وهبي بالفيلم لمرَّ مرور الكرام! كنتُ قد تابعت على إحدى القنوات الفضائيّة مقابلة مع وزير الثقافة المصري، المفكر المعروف الدكتور جابر عصفور. سأله المذيع حول رأيه في منع عرض فيلم (حلاوة روح)! أجابه الدكتور عصفور بأنه ضد خنق حريّة التعبير بكل أشكالها. وحكى له عن اثنين من أصدقائه ذهبا إلى بيروت وقادتهما الصدفة إلى إحدى دور السينما التي كانت تعرض فيلم حلاوة روح، تفاجئا بأنهما كانا الوحيدين المتواجدين بالقاعة ولا أحد غيرهما. كان الدكتور جابر يغمز بأن الجمهور هو القاضي الذي يحكم على جودة أو رداءة منتج بعينه، وأنه هو الذي يضمن دخوله من أوسع بوابات التاريخ، أو إلقاؤه بصناديق القمامة غير مأسوف عليه! عدم صب اهتمامنا لكل ما يخرج لنا من فنون، سيدفع الفن الحقيقي إلى فرض نفسه وسيجد له مكاناً فسيحاً بصفحات التاريخ. والفن الهابط مهما علا شأنه، سيُصبح مثل فقّاعات الصابون سرعان ما يتلاشى كأنّه لم يكن!