خلال ما يزيد على نصف قرن من الزمان، ساهمت الأمم المتحدة في تقسيم المستعمرة البريطانية الفلسطينية من أجل تأمين وطن قومي للشعب اليهودي، بعد أن كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، وما لبثت أرض فلسطين أن استعمرت من طرف دعاة الصهيونية ومؤسسي دولة إسرائيل. وأعلنت كل الدول العربية تقريباً معارضتها لعملية التقسيم التي حدثت بين عامي 1947 و1948 واعتبرته عملاً عدوانياً وغزواً لبلد ينشد الاستقلال، إلا أن هذه الدول جميعاً خسرت أمام المدافعين العسكريين عن الدولة الصهيونية الجديدة. وبهذا الانتصار، تمكنت إسرائيل من تأسيس «وضع دائم» ليس فقط على أرض كانت تابعة لدولة فلسطين، بل في قلب الشرق الأوسط برمته، وكان هذا الكيان الجديد يحظى بدعم الولايات المتحدة. وبدا وكأن هذا «الوضع الدائم» لا يتلقى الدعم من أميركا وحدها، بل من دول أوروبا الغربية أيضاً. وتمكن المستوطنون الإسرائيليون فيما بعد من إثبات وجودهم فوقها ضد محاولات العرب المتجددة لطردهم منها وتغيير الوضع في سنوات 1956 و1967 و1973. وكان الهجوم الإسرائيلي على لبنان عام 1982 لطرد القوات المنضوية تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية إلى بلدان عربية أخرى، ناجحاً، إلا أن إسرائيل فشلت في احتلال جنوب لبنان بمساعدة مرتزقتها من (جماعة أنطوان لحد) هناك بسبب العمليات العسكرية التي خاضها مقاتلو ما يسمى «حزب الله» ضد الاحتلال الإسرائيلي، والذين استهدفوا أيضاً بلدات وقرى داخل إسرائيل ذاتها، وانسحب الإسرائيليون من لبنان بشكل كامل عام 2000. وكانت هذه هزيمة لإسرائيل، غيرت الموازين في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي، وكانت كافية لإثارة الخلافات بين الإسرائيليين أنفسهم. ومثّلت مقدمة لمرحلة جديدة من الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني توحي بأن العرب ليسوا الخاسرين الدائمين فيه، بل إن الخسارة شملت أيضاً كل رعاة الصهيونية من الأوروبيين والأميركيين الذين لم يبقَ أمامهم من حل آخر للقضية سوى حل إقامة الدولتين. إلا أن هذه الرؤية آلت بدورها إلى نفق مسدود، لأن السلوكيات الاستيطانية الإسرائيلية التي لا تعرف النهاية، أصبحت تصب في مصلحة حكومات الجناح «اليميني»، التي تسعى إلى ضم المزيد من الأراضي الفلسطينية. وتميزت هذه المرحلة الجديدة من الصراع بتحول جديد مفاده أنه كلما زادت إسرائيل من سلوكها العدواني ضد الفلسطينيين، وأمعنت في تحديها للإرادة الدولية، تعمق الانقسام السياسي داخلها بدلاً من الوحدة. ولا يحدث هذا بسبب ما يفعله الفلسطينيون بالإسرائيليين، بل بسبب ما يفعله الإسرائيليون بإسرائيل وبمصالحها (وبمصالح الأميركيين أيضاً). ويصدق هذا الحكم بشكل خاص في عهد الحكومات «اليمينية» التي ترأسها نتنياهو في سنوات 1996- 1999، وأيضاً من 2009 حتى الآن، والتي يعتقد بأنها ستعود إلى السلطة عقب الانتخابات التشريعية التي ينتظر إطلاقها في شهر مارس المقبل. وجاءت الفترة التي تمتد بين عامي 2008 و2009، وبدأت بحرب ضروس امتدت لشهر كامل، خَلَت من أبسط المظاهر الإنسانية وشنّتها إسرائيل ضد قطاع غزة الذي أصبح تحت حكم «حماس»، واستهدفت الهجمات الجوية وقذائف المدفعية التجمعات السكانية بهدف تحقيق أضخم حجم من البشرية حتى يتخلى السكان عن تأييدهم لحركة «حماس» التي سبق لهم أن انتخبوها واختاروها لحكم القطاع على الرغم من تحذير السلطة الفلسطينية والحكومتين الأميركية والإسرائيلية لهم من تبني هذا التوجه، إلا أن سكان غزة رفضوا ذلك وأدانوا «عملية الرصاص المسكوب»، وما لبثت «حماس» أن أعلنت عن انتصارها بعد ذلك،إلا أن الأمر لم يبدُ وكأنه يمثل انتصاراً بالنسبة لأي جهة أخرى غير «حماس» وفقاً للمقاييس العسكرية أو المادية. وأما إسرائيل، فإنها لم تحقق من هذه الحملة الشعواء أي شيء سوى أنها ألحقت الهزيمة بنفسها من النواحي الأخلاقية، لقد كان ما فعلته إسرائيل في غزة يمثل هزيمة حقيقية للعنف والسياسات الحمقاء التي تتبعها، مثلما حدث في غزوها للبنان عام 1982. وكان الهجوم الأول الذي شنته على القطاع قد حدث قبل ذلك بثماني سنوات بدعوى الرد على الصواريخ التي يطلقها الثوار الفلسطينيون من القطاع باتجاه إسرائيل. وأتى بعدها عدوان 2012، الذي أدين من المجتمع بقوة، والذي أدى إلى مقتل أكثر من 2000 مواطن غزاوي، وواجهت إسرائيل بسببه إدانة من معظم دول العالم. وأدت هذه السياسات العدوانية في مجملها إلى عزلة إسرائيل عن معظم حلفائها بمن فيهم الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، وخلقت وضعاً بلغ ذرة الحرج، وهو ما سينعكس على انتخابات مارس المقبل في إسرائيل، وربما على الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016 أيضاً.