قام الضباط الأحرار في مصر بثورة يوليو 1952. وثورة الجيش وثورة العلماء في الدفاع عن الوطن ثورة واحدة، لقد وقف رجال الدين أمام نابليون، وقاوموا الحملة الفرنسية، ثم قام عرابي متسلحاً بروح الأزهر مدافعاً عن حقوق الوطن، ثم اشترك بعض العلماء في ثورة 1919، وقاد رجال الدين المظاهرات. لقد كان هدف الاستعمار هو القضاء على الجيش وعلى الأزهر، قمع الضباط الأحرار، ورجال الدين المعتدلين. ففي مصر يومها قوتان: قوة الجيش، وقوة الأزهر، وكان هدف الاستعمار تسريح جيش مصر، والقضاء على هيبة العلماء، وتشويش الدين والثقافة وإفساد نظم التعليم يومذاك. لقد كان دور العلماء دائماً هو توجيه السياسة المصرية، فقد قام السيد عمر مكرم بتنصيب محمد علي والياً على مصر، وارتفع صوت محمد عبده ينادي بالتجديد، كما ارتفع صوت لطفي السيد منادياً بأن تكون مصر للمصريين، ودعا قاسم أمين إلى تحرير المرأة. فالتدين والوطنية والمجتمع كلها روافد واحدة، لأن الدين بقوته الروحية يمثل طاقة وطنية اجتماعية، ولكن لسوء الحظ استغلت الدولة العثمانية الدين ضد مصلحة الجماهير ومن أجل تثبيت دعائم الظلم، وبث الرشوة وإفساد الضمائر وتدعيم حكم الأقلية العثمانية المسيطرة ضد غالبية الشعب المطحون حتى عاش الشعب أسوأ فترات الظلم تحت ستار الدين. ثم أتى الاستعمار، فأيد نظام الاستبداد، واعتبر مع السلطان كل وطني من رجال الدين أو رجال الجيش في مصر خارجاً عن الدين! ولذلك لم يكتف الضباط الأحرار في مصر بقول «يارب يا متجللي، أهلك العثمانللي»، ولكنهم كانوا يرون أن ميدان العمل الوطني في مصر هو جعل الثورة مشروعاً تنموياً وتحررياً وطنياً، تلك المهمة التي شاءها القدر لهم. كما استطاع الإسلام أن يقف في مواجهة الحملات الصليبية قديماً، وهي الشكل القديم للاستعمار. واستطاع أيضاً الوقوف أمام الغزوات الاستعمارية حديثاً وهي الشكل الآخر لتلك الحملات. لقد أتى الإسلام برسالة تحرر للإنسانية جمعاء من الظلم والمادية المفرِطة، تلك هي روحانية الإسلام لا الروحانية العرجاء الصماء التي تعبر عن العجز والنفاق، «إن القيم الروحية الخالدة النابعة من الأديان قادرة على هداية الإنسان، وعلى إضاءة حياته بنور الإيمان، وعلى منحه طاقات لا حدود لها من أجل الخير والحق والمحبة»، فالدين توجيه للإنسان وتوجيه للجماهير، وفكر معتدل يقوم على الحرية، «فإن هذه القيم لابد لها أن تعكس نفسها في ثقافة وطنية حرة تفجر ينابيع الإحساس بالجمال في حياة الإنسان الفرد الحر. إن حرية العقيدة الدينية تجب أن تكون لها قداستها في حياتنا الجديدة الحرة»، فالدين ليس تكفيراً وتفتيشاً في الضمائر واتهاماً للأبرياء، بل هو ثقافة وطنية حرة واجتهاد مفتوح والتزام بأهداف الأمة.«إن رسالات السماء كلها في جوهرها كانت ثورات إنسانية استهدفت شرف الإنسان وسعادته. وإن واجب المفكرين الدينيين الأكبر هو الاحتفاظ للدين بجوهر رسالته»، فالدين ثورة إنسانية. إن جوهر الرسالات الدينية لا يتصادم مع حقائق الحياة، وإنما ينتج التصادم في بعض الظروف ومحاولات بعض القوى المتشددة أن تستغل الدين ضد طبيعته وروحه لعرقلة التقدم، وذلك بافتعال تفسيرات له تتصادم مع حكمته السامية، فالدين في حقيقته ثورة، ولكن القوى المتطرفة تحيله إلى ثورة مضادة. لقد كانت جميع الأديان ذات رسالة تقدمية، ولكن القوى المتطرفة الرجعية التي أرادت احتكاره لصالحها وحدها أقدمت على جريمة ستر مطامعها بالدين، وراحت تلتمس فيه ما يتعارض مع روحه ذاتها لكي توقف تيار التقدم.