لم تشهد الأمة العربية مرحلة فوضى فكرية في تاريخها القريب كما تشهدها اليوم، وتعبر وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر بخاصة) عن حالة الاضطراب الفكري الذي أصاب الأمة وجعلها تتخبط بل تضيع البوصلة فيها وتختلط اتجاهاتها، وتظهر فيها طروحات وأفكار تضليلية تتيح لها الانتشار فضاءات حرية التواصل، وبعض المتخبطين يستخدمون أسماء وهمية تتيح لهم مزيداً من الفاعلية في إحداث الفوضى الهدامة. وتعبر التنظيمات الدينية المتطرفة التي ظهرت مؤخراً في عديد من الدول العربية عن انفلات فكري خارج عن كل الضوابط التقليدية التي كانت حاضنة للحوار مهما اشتدت تناقضاته، فقد أحدث الانهيار السياسي الذي شهدته بعض النظم العربية سقوطاً أخلاقياً مريعاً جعل العنف وسيلة للنقاش، وانتشرت الجرائم بدوافع سياسية أو فكرية أو عقائدية بطريقة عشوائية وانتقلت الصراعات إلى فضاءات طائفية ومذهبية وعرقية في مناطق التوتر، وظهرت الصراعات الإيديولوجية مدججة بالأسلحة الفتاكة، وفي الغالب كان ضحايا هذا العنف وهذه الفوضى الدموية أناساً أبرياء داهمتهم الفواجع دون أن يكون لهم أي دور أو شأن فيما يحدث. كانت أفكار المعاصرة منذ الخمسينيات، ومن ثم أفكار الحداثة قد أغوت النخب السياسية والفكرية العربية، لكنها وصلت بعد عقدين من الجدل والحوار إلى فراغ عبثي ولم تحقق شيئاً مما وعدت به على صعيدي الفكر والثقافة، وكان انهيار كثير من نظرياتها شبيهاً بانهيار الفكر الماركسي الذي أحدث غيابه فراغاً لدى أتباعه وظهرت الأفكار الحداثية متعددة الرؤى ولكنها لم تستطع صياغة فكر متوازن معتدل حين طالب بعض روادها بقطيعة كلية مع الماضي، وسرعان ما أعلن مفكروها عن رؤية ما بعد الحداثة، ولم يفهم أحد من عامة الناس ما يدور بين تلك النخب من نقاش وحوار يستعيد نوعاً من اللامعقول والعبث. لقد نحت الحداثة إلى المجهول فيما سمته «ما بعد الحداثة» ثم «ما بعد ما بعد الحداثة» حتى بدت التسمية وهماً أو أحجية، ويقول الحداثيون أنفسهم إنها وقعت أخيراً في براثن الإمبريالية، وكبرت الإشكاليات بعد ظهور دعوات صراع الثقافات ووصلت إلى ذروتها بعد جريمة 11 سبتمبر، فوقع الخطاب الإسلامي في منطقتنا في قطيعة نهائية مع الحداثة شكلاً وموضوعاً، وبدا موقفه من الحضارة الغربية مضطرباً. ولابد لنا من أن نلحظ هذه التغيرات المثيرة في الخطاب الإسلامي بين مطلع القرن العشرين وبين أواخره، ففي بدايات عصر النهضة كان الشيخ محمد عبده يسأل: كيف يمكننا أن نلحق بالغرب؟ وكان رفاعة الطهطاوي قبله قد أعلن انبهاره بحضارة باريس، بل إن بعض المفكرين العرب جعلوا الغرب مرجعيتهم ومنهم الأزهري طه حسين الذي رأى أن مستقبل الثقافة في مصر يقع على الضفة الأخرى من المتوسط، وقد أثار عليه موقفه حركة نقدية أعتقد أنها من أعمق ما دار من حوارات ثقافية في أواسط القرن العشرين، ولكن الخطاب الديني المواجه سرعان ما تطور إلى رؤية سياسية مغلقة، ولاسيما بعد ظهور تفسيرات لمفاهيم «الحاكمية» تحرم الشعوب من حقها في التدبير والتفكير. وقد سيطرت القضايا السياسية على كل تجليات الخطاب الثقافي والفكري، وانتقلت إلى هذه الصراعات الراهنة، وهي تحتاج اليوم إلى نهوض فكر إصلاحي يعيد فهم وتفسير النصوص الدينية ويفصل التاريخي عن المقدس، ويعيد للشعوب حقها في تدبير شؤونها المدنية، دون المساس بحقوقها العقائدية. ولابد من إعادة الاعتبار للقيم الأخلاقية التي غرقت في المادية وأنتجت ردود أفعال غير أخلاقية أيضاً، وقد يبدو ذلك سجالاً حاداً بين الثقافات ولكنه يتجسد على الصعيد الشعبي والاجتماعي في حالات احتقان، فالتنابذ الراهن بين وجهات النظر يغلق ساحات الحوار، وهذا ما يستدعي دوراً كبيراً للحكماء والنخب الثقافية لتقديم سوية لائقة ترقى إلى مستوى إنساني يعترف بحق الاختلاف بين البشر، وبحق التعبير ويحفظ للخصوصيات الثقافية حضورها. ولابد للدول العربية المستقرة من أن ترعى نمو خطاب عربي إسلامي وسطي معتدل يشكل رافعة فكرية من حالة السقوط المهدد للمنطقة كلها، حيث لا يمكن القضاء على التطرف والإرهاب إلا عبر فكر بديل يحقق التوازن، وينقذ الأجيال من الضياع.