تتدرج التحديات التي تواجه المجتمع المدني المصري بدءاً من الصراع حول المصطلحات والمفاهيم وانتهاء بالتفاصيل الصغيرة المرتبطة بالعمل اليومي المفعم بالمشكلات متعددة الأشكال والصور. وتتراكم هذه المشكلات، صغيرها وكبيرها، لتشكل جداراً سميكاً يحول دون نمو مؤسسات المجتمع المدني المصري بالمستوى والدرجة اللتين يحتاجهما واقع مثقل بأعباء ضخمة تتوزع على كل مناحي الحياة تقريباً. إن مصطلح المجتمع المدني لا يزال يواجه مشكلة استيعابه وهضمه ضمن منظومة المفاهيم التي تحكم رؤى قطاعات عريضة من النخبة والجماهير على حد سواء. فأتباع بعض التيارات الإسلامية المتشددة يرون فيه مصطلحاً وافداً مستورداً مشبوهاً، وأتباع السلطة وبعض الإسلاميين والقوميين واليساريين ينظرون بعين الريبة إلى المجتمع المدني بوصفه يشكل رأس حربة لمشروعات استعمارية غربية مستترة، من خلال تبنيه برامج عمل اجتماعية وسياسية، بعضها لا يلائم واقعنا، وبعضها لا يشكل مطالب ملحّة للجماهير الغفيرة، وآخر يتعارض مع قيمنا ومعتقداتنا. ويتكئ هؤلاء في اتهامهم هذا على حجج عديدة منها همزات الوصل بين بعض المؤسسات الرسمية الغربية وبين منظمات المجتمع المدني المصرية، ومحتوى الأجندة التي تتبناها هذه المنظمات، وتفشي ثقافة الاسترزاق عند بعض القائمين عليها، الأمر الذي يجعلهم في نظر منتقديهم أقرب إلى العملاء أو مخالب القطط منهم إلى المناضلين الاجتماعيين، أو أصحاب الرسالات الثقافية والاجتماعية، الباحثين عن مجتمع أرقى وأفضل. ويعاني المجتمع المدني المصري من جمود وتخلف كثير من الأطر القانونية التي تحكم عمله، على رغم الضغوط التي يمارسها على الحكومات من أجل تحديث البنية القانونية والتشريعية، بما يعزز دور المجتمع المدني في التنمية الاجتماعية والبشرية. فالحكومة استجابت جزئياً لهذه الضغوط، ولكن حصاد هذه الاستجابة جاء ضعيفاً باهتاً مشحوناً بتحفظات وقيود عدة، تحد من حرية المنظمات غير الحكومية، وتجعلها عرضة للتدخلات الإدارية من قبل السلطة، خاصة في الجوانب الإجرائية المرتبطة بالتسجيل والإشهار، وحق الحكومة في أغلب الجمعيات، والرقابة الصارمة على مصادر تمويلها، لأسباب أمنية. وقبل ثورة يناير ضغطت الحكومة على مؤسسات التمويل في بعض الأوقات من أجل توجيه جزء من أموالها إلى منظمات بعينها أو هيئات حكومية تعمل في المجال الاجتماعي العام، وهذه المسألة قابلة للتكرار. ومن التحديات التي تواجه المنظمات غير الحكومية في مصر وجود قوانين وتشريعات صريحة وواضحة تحظر عليها العمل السياسي، من دون تعيين الحدود التي تفصل بين السياسي وبين غيره من مجالات العمل العام. ولا تنجم تحديات المجتمع المدني من السياقات التي تحيط به فقط، بل إن بعضها يعود أيضاً إلى طريقة أداء المنظمات غير الحكومية ذاتها وتصورها لطبيعة أدوارها، ومدى إخلاص القائمين عليها لمقاصدها وغاياتها. فبعض هؤلاء يتعاملون مع هذه المنظمات على أنها مجرد وسيلة للارتزاق تتيح لأصحابها الحصول على جزء من الأموال التي تخصصها المؤسسات والحكومات الأجنبية لتشجيع التطور السياسي والاجتماعي في بعض البلدان، أو لخلق نخبة مرتبطة بمصالح الغرب، حسب بعض الأدبيات العربية التي تنتقد أداء وأدوار المنظمات غير الحكومية. وبعض القائمين على تلك المنظمات يتعاملون مع مواقعهم على أنها طريقة للحصول على الوجاهة والمكانة الاجتماعية والبقاء في دائرة الضوء عبر مختلف وسائل الإعلام. وتعاني بعض هذه المنظمات من أزمة مصداقية نتيجة ثلاثة أسباب رئيسية: الأول هو وجود قدر لا يستهان به من الفساد وافتقاد الشفافية يصِم المجتمع المدني المصري، ويطاول في درجته الفساد الذي قد يصيب الحياة السياسية والإدارية العامة، والذي يناط بالمنظمات الأهلية والحقوقية أن تفضحه وتحاربه. وتنطبق على المجتمع المدني في هذه الناحية الحكمة المشهورة التي تقول «فاقد الشيء لا يعطيه». والسبب الثاني هو غياب الديمقراطية الداخلية في المجتمع المدني، فكثير من منظماته ومؤسساته تعاني من استبداد شخص أو قلة بالرأي والقرار، وتلف بعضها حالة من الغموض، ويعاني بعض العاملين فيها من غبن وجور، شأنهم شأن بعض الموظفين الحكوميين. أما السبب الثالث فهو ضعف الدور الاجتماعي لهذه المنظمات، وهي مسألة واضحة للعيان، فقد مر المجتمع المصري بالعديد من الكوارث الاجتماعية والطبيعية، ولم تكن منظمات المجتمع المدني الحديثة موجودة بين المنكوبين بالحضور المطلوب والناجع، على العكس من المؤسسات التقليدية للمجتمع الأهلي، التي يرتبط أغلبها بالدين سواء الإسلامي أم المسيحي. روائي وباحث في علم الاجتماع السياسي