على مائدة فطور لقائنا السنوي في مؤتمر «الاتحاد» بأبوظبي قال السيد ياسين، «شيخ» الكتاب المصريين، «لو علمتُ أني سأحيا بعد الثمانين من العمر لادّخرَت نقوداً تغنيني عن العمل الآن». وخجلتُ أن أقول له؛ حسناً فعلتَ عندما لم تدّخر نقوداً تغنيك عن العمل بعد الثمانين، وإلا كنا سنُحرم من مراجعاتك النقدية للعولمة، وللحركة الإسلامية، والاقتصاد السياسي للرأسمالية، والمجتمعات الاستهلاكية، وأسباب ضياع الدولة العربية الحديثة، وسلسلة مقالاتك عن تحولات الشخصية المصرية، وعن مشكلات البحث العلمي في الوطن العربي، وما كانت الفرصة ستتاح للمجتمع الفكري العربي للاحتفال بمنحك «جائزة العويس» الإماراتية بمناسبة بلوغك الثمانين. و«المرء يصبح عجوزاً عندما يتقدم به العمر، وأنا ما زلت في عمر العشرين». قال ذلك بيكاسو، عندما وقع وهو على مشارف الثمانين في عشق زوجته الأخيرة جاكلين. معرض «بيكاسو وجاكلين» المستمر حتى الشهر القادم في غاليري «بيس» في نيويورك، يصور كيف أصبحت زوجته عالَمَه كله؛ «إنها في كل مكان، في أحلامه وتخيلاته»، يقول ذلك دليل معرضه. وعبقريٌ من يعشق زوجته، فيصورها في أدق تفاصيل حياتها ومباذلها اليومية؛ جاكلين تمشط شعرها، وجاكلين تفكر، وتضحك، وتبكي.. وإضافة إلى 400 لوحة بورتريه شخصية لها. معرض نيويورك يلتقط لأول مرة تحولات أسلوب بيكاسو في عمر الثمانين. وفي معرض آخر، هو معرض الفنان هنري ماتيس، الذي انتقل هذا العام من لندن إلى باريس، شهادة على مصارعة الجسد للروح المشتعلة. ماتيس هو الفنان الوحيد الذي كان بيكاسو يعتبره نظيره، ويغبطه على قصاصات الورق الملون التي تتكون منها أعماله الأخيرة المعروضة في نيويورك. بالمقص والورق الملون أطلق منابع إبداع تطفئ حرائق الروح. «لقد هرم هنري ماتيس لكن أعماله لم تهرم»، ذكرت ذلك هيلاري سبرلنغ، مؤلفة كتاب «ماتيس، الأستاذ»، الذي تحول مع نهاية حياته إلى ميدان صراع حاد بين جسد عجوز مقعد، ومخيلة فتية فوارة. لا شيء يمكن أن يوقفه. عيناه انهارتا، قال طبيب العيون، إن «شبكية العين لا تستطيع مجاراة وتيرة دماغه المتسارعة في معالجة الألوان، يداه تورمتا، والضعف قصّر نهاراته، والألم والارتعاش التهما لياليه. كثير من مساعديه الشباب بلغوا حافة الانهيار، لكنهم يتفقون جميعاً أن الجو المتوتر في استوديو ماتيس كان منعشاً قدرَ ما كان مستنزِِفاً. قال أحد مساعديه: «كان ذلك سباقاً، منازلة في الجلَد يخوضها مع الموت». والحياة تبدأ بعد التسعين بالنسبة لأول رئيس لاتحاد نقابات العمال في العراق، «آرا خاجادور». يمثل «آرا» الذي بلغ التسعين هذا العام ظاهرة فريدة في الحركة اليسارية العراقية والعربية. فهو الماركسي، الأرمني الأصل، الذي قد يسهل عليه تغليب «الشعور الطبقي» على الوطني، لكنه ناهَض بضراوة احتلال العراق عام 2003. كتابه «نبض السنين» الصادر مؤخراً عن «دار الفارابي» ببيروت حصيلة قلب تسعيني يصارع التحطيم كقلب «الملك لير»، بطل مسرحية شكسبير، الذي خانته بناته بعد تخليه عن العرش. «آه لا تَدَعيني أُجنُّ، لا أُجنُ، أيتها السماوات الحلوة. احفظي لي جَلَدي، لا تدعيني أُجَنُّ». ومعجزةٌ أن لا يُجنُّ مناضل من جيل علّمه مؤسس حزبه «فهد» أن «الاستعمار هو العدو الأول»، عندما يجد رفاقه أعضاء في حكومة أسسها الغزاة. الرسائل والوثائق التي يتضمنها كتابه يوميات قلب يقاوم التحطيم، وعقل يصارع الجنون. وعندما أخبرني السيد ياسين أنه أرمل منذ سنوات، أدركت سر ولعه بالتورتات والجاتو، فالباحثون يقولون إن حب الحلوى تعويض عن الحب المفقود. ومع أن بيني والثمانين عمرٌ، فقد وجدتني منذ غادَرَت الحياة زوجتي «أم عباس» أتنقل من حلوى إلى حلوى. ولا تسأل عن عمري بالتحديد فلن أجيب، ونصيحة والدتي رحمها الله، أن لا أذكر عمري، ليس خوفاً من الحسد، لا «بس الناس راح يعاملوك قدر عمرك، خصوصاً الذي بعمرك، يعدوك بالكلام عن أمراض السكري، والضغط، والمفاصل، وإلى آخره مما يتلذذون بذكر تفاصيله». وأنا أصدق الوالدة، فهي لم تشكو عندما بلغت التسعين إلا من أمر واحد «آخ لو بَسْ أحِبْ»! ---------------------------- *مستشار في العلوم والتكنولوجيا