خلال السنوات الماضية كثرت الكتب والتحليلات التي تناولت وحللت بروز وصعود التيارات الدينية المتشددة والتيارات الإسلامية بقالبها السياسي، لكن كتاب «السراب»، لسعادة الدكتور جمال سند السويدي، مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، والذي سيكون قريباً بين أيدي المثقفين والباحثين والمهتمين بهذا الشأن، يضعنا أمام طرح مغاير ومختلف يتميز بموضوعتيه وعمقه يناقش مجموعة الإشكاليات التي تعانيها الجماعات الدينية بمختلف مستوياتها، من خلال كتاب يأخذنا عنوانه إلى منحى جديد في التفكير، خصوصاً إذا عرفنا أن تعريف السراب في الاصطلاح، «هو نوع من الوهم البصري، حيث تبدو الأشياء البعيدة أقرب مما هي عليه في الحقيقة»، من هنا تبدأ رحلة من يريد البحث عن الحقيقة في خبايا وثنايا «الوهم الفكري» الذي تمارسه الجماعات الدينية المتشددة. لذلك أخذ المؤلف على عاتقه بيان الحقيقة وكشف الزيف من معالجة يمكن وصفها بأنها رحلة فكرية الهدف منها إرجاع من يقودهم السراب إلى عقولهم وإلى مجتمعاتهم، خصوصاً بعد أن أصبحوا خطراً يهدد سلم الدول الآمنة وكيانات السلام في العالم، حيث يرى المؤلف أن الجماعات الدينية السياسية ترفع شعارات مراوغة لا يمكن إخضاعها للتدقيق والقياس المنهجي. يتناول سعادة الدكتور جمال في الكتاب أهمية الحذر من تداعيات هذا الوهم الذي يتطلب استراتيجية محكمة ودقيقة لمحاربته من أجل الحفاظ على أمن المجتمعات وسلامتها وليتاح لها الوقت الكافي في المضي قدماً في مسيرة التنمية التي أصبحت تشكل مبتغى كل مجتمع حول العالم، وتعزيزاً للفكرة السابقة سأقتبس من الكتاب موضوع الطرح «أن التطرف مقدمة للقتل ومرحلة سابقة له، وأن تجاهل هذا الفكر في مراحله الأولى ستكون نهايته الحتمية شيوع مثل هذا المستوى المذهل من العنف والإرهاب وسفك الدماء على يد منتسبي الجماعات الدينية السياسية في مناطق شتى من العالمين العربي والإسلامي». مما سبق يتأكد لنا أن بداية الطريق لاحتواء الأفكار المتطرفة هي التنوير الفكري وتحصين السلوك الفكري للمجتمعات المعرضة لمثل هذه الهجمات من خطورة وفتك هذا الوباء الذي بات عابراً للجغرافيا، بدليل ما نسمع عنه يومياً من هجمات «الذئاب المنفردة» حول العالم، حيث حذر مايكل موريل، الذي شغل نائب مدير المخابرات المركزية سابقاً، في أحد البرامج الحوارية على قناة «CBS» الأميركية من إمكانية حدوثها قائلا: «نحن بحاجة للاستعداد لذلك، ولا ينبغي للناس أن يفاجَأوا عندما يحدث الأمر في وقت ما خلال العام المقبل، لأنه سيحدث بالتأكيد». لذلك ينقلنا السويدي في كتابه الجديد إلى فهم هذه الحرب التي يعتبرها ذات طابع فكري بالأساس، ويعطي أولوية معالجتها فكرياً أهمية لا تقل عن التعامل الأمني والعسكري معها، هذه الحرب التي فرضت علينا من قبل أصحاب الفكر المتشدد الذي يتخذ من الإقصائية وتكفير المخالف مبدأً لا يحيدون عنه. لذلك أعطى كتاب «السراب» صورة واضحة عن موقف المؤلف في دفاعه عن قيمة الإنسان وعن وسطية وسماحة الدين الإسلامي الذي أصبح حجة في اللعب على مشاعر الناس لاستغلالهم في بناء إمبراطوريات الإرهاب التي يغذيها الدم وتشحنها الكراهية، خصوصاً أنها تتمحور على فكرة «دولة الخلافة» وقتل الدولة المدنية التي يعيش في كنفها المواطنون وفقاً للعقد المدني المبرم بين الدولة والشعب استناداً لمبادئ الحقوق والواجبات واحترام سيادة القانون. لذلك جاء كتاب «السراب» في وقت دقيق، بل الوقت المناسب لإطلاق التحذيرات وقرع أجراس الخطر، حيث قال: «الجماعات الدينية السياسية تعتمد تفسيراً ضيقاً للشرع، استناداً إلى مفهوم الحاكمية، معتبرين أنفسهم وكلاء الله في الأرض». ويطرح الكتاب الذي أصفه بأنه رحلة إنقاذ فكرية للدول والكيانات، سؤالا حول مستقبل الجماعات الدينية السياسية في ظل المتغيرات السياسية والديموغرافية والتحول في مواقف الدول حيالها، وحول موقف الرأي العام والضمير الجمعي منها بعد سلسلة طويلة من الفشل السياسي والاجتماعي، حيث يرى المؤلف أنه من غير الممكن انحسار دور هذه الجماعات دون وجود خطة تنموية تعالج المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للدول التي تعاني من آثار تخلف التنمية.