يميل «صقور» واشنطن للإفراط في التحذير من تطور القدرات العسكرية للصين على رغم ما تواجهه من عوائق مالية غير مسبوقة. وخلال شهر أكتوبر انخفض الرصيد الصيني بنحو 13,6 مليار دولار بالمقارنة مع شهر سبتمبر، وهو المعدل الأدنى منذ عشرين شهراً. ويبدو أن هذا التراجع يأتي على خلفية قرار اقتصادي بتخفيض المخزون النقدي الأجنبي في المصارف الصينية والذي يبلغ 1,25 تريليون دولار، وهو الأعلى في العالم. ويأتي هذا التوجّه في إطار السعي لتوسيع آفاق التعامل بالعملة الصينية المحلية «اليوان» على المستوى العالمي. كما يبدو بوضوح أن الصين تتجه نحو تعويم عملتها المحلية في الأسواق العالمية، بحيث تسمح لها بتحديد سعر صرفها بالمقارنة مع العملات الدولية. وهذا يعني أنها ستشتري دولارات أقل. ومهما كانت الأسباب التي تقف وراء هذا التحول، يمكن القول إن تراجع المخزون الدولاري للصين سيعيد حليفة الولايات المتحدة اليابان، التي تعد ثاني أضخم قابض للدولار بمخزون إجمالي يبلغ 1,22 تريليون دولار، للمرتبة الأولى لتتقدم على الصين مرة جديد. ومنذ عام 2008، عندما احتلت الصين المرتبة الأولى من حيث مجمل مخزونها الدولاري، عبّر المسؤولون الأميركيون عن قلقهم من التأثير السلبي لهذا النجاح على اقتصاد الولايات المتحدة. وفي شهر فبراير من عام 2009، قامت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون بأول زيارة لها إلى الصين كمسؤولة حكومية. وحرصت على إغفال الحديث عن قضايا حقوق الإنسان في الصين لتحثّ الصينيين على شراء المزيد من السندات والقروض من الولايات المتحدة. وقالت للمسؤولين الصينيين: «لقد كتب علينا أن نصعد معاً أو نهبط معاً. وعندما تواصل الصين دعم الأدوات البنكية الأميركية فإنها بذلك تعترف بهذه العلاقة التفاعلية». وتبدو المخاطر المترتبة على التوجهات الاستقلالية الصينية واضحة. وكثيراً ما لوّح القادة الصينيون في مناسبات عديدة باستخدام الخزائن البنكية للضغط على واشنطن وحملها على التخلي عن السياسات التي لا تقبلها بكين. وفي شهر أغسطس من عام 2011، جاء في مقال نشرته صحيفة «بيبول ديلي» الناطقة باسم الحكومة الصينية: «هذا هو الوقت المناسب للصين لاستخدام (سلاحها المالي) من أجل تلقين الولايات المتحدة الدرس الذي تستحقه بسبب دعمها لاستقلال تايوان». وكثيراً ما تحدثت نُخب اقتصادية أميركية من الوزن الثقيل، من أمثال «براد سيستير» رئيس فريق الخبراء في وزارة الخزانة، عن كون الشركات الصينية القابضة للأموال والأصول أصبحت تشكل تهديداً للأمن القومي الأميركي. وفيما يبدو واضحاً أن تخفيض الصين لمخزونها الدولاري القابض سيكلفها غالياً، فإن هذه الموجة من المبيعات يمكنها أن تؤذي واشنطن أيضاً بشكل أكبر. وسيؤدي ذلك إلى إصابة شركات الإقراض الأميركية بضرر كبير، ومن الممكن أن يؤدي إلى ركود اقتصادي شامل. وتعمل اليابان الآن على الرفع من مخزونها الدولاري القابض من أجل الضغط على «الين» وتخفيض قيمته. وهذا الإجراء هو حجر الأساس في «السياسة الاقتصادية الآبينوميكية» المنسوبة إلى رئيس الوزراء «شينزو آبي». وكان من بين أهم انشغالات «آبي»، محاربة ظاهرة «الانكماش النقدي» المعاكس في مفهومه للتضخم. وفي هذا الإطار، دعا الشركات لرفع قيمة الأجور. ومن شأن مثل هذه الإجراءات أن تدفع «الين» للهبوط أكثر. ويرى كثير من الخبراء أن انخفاض «الين» إلى مستوى 150 يناً مقابل الدولار مقارنة مع 118 الآن، سيعني زيادة كبيرة في القوة الشرائية للدولار عام 2015. ومن شأن هذا التوجه أن يعيد طوكيو إلى موقعها المعهود كأضخم قابض للخزين البنكي في العالم، وهو الموقع التي بقيت تحتله لعدة عقود قبل عام 2008. وبالطبع، ليس من المهم التركيز على الدولة التي تحتل المرتبة الأولى، إلا أن صادرات أميركا الهائلة للسندات تجعلها معرضة للخطر الدائم. ولو كانت اليابان تمثل «بنك أميركا» فلا شك أنها ستتمكن من إزالة عوامل الخطر والتهديد التي تتخوف منها واشنطن في الأسواق. واليابان حليف صلب للولايات المتحدة باقتصادها الحر المنفتح وحكومتها الواقعة تحت الرقابة الديمقراطية الدائمة. ومع تصاعد الطموحات العسكرية الصينية، وقفز الخلافات الإقليمية إلى الواجهة ونمو الطموحات النووية لكوريا الشمالية، سيكون هناك سبب ضئيل لابتعاد طوكيو عن واشنطن. صحيح أن أوباما لا يمكنه أن يجبر اليابان على تغيير سياساتها النقدية، إلا أن في وسع الولايات المتحدة أيضاً أن تمنحها امتيازات كشريك مفضل في محادثات الشراكة بين دول الهادي كحافز مهم وذي تأثير فعال. --------- ويليام بيسك محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سرفيس»