استطاع جمال عبدالناصر لأول مرة في تاريخنا الحديث منذ محمد علي صياغة مشروعنا القومي الذي تمثل في مبادئ الثورة الستة والذي تحقق على مدى ثمانية عشر عاماً فأعطى المنطقة واقعاً وكياناً مناهضاً للاستعمار والصهيونية والرأسمالية ومؤداه استقلال الإرادة الوطنية للشعوب وسيطرتها على وسائل الإنتاج ومؤسساً حركة عدم الانحياز التي أصبحت تمثل مستقبل العالم، تمده بقيم جديدة في التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية. وبالرغم مما عاناه البعض منا أثناء تحقيق مشروعنا القومي، رغبة في المزيد من العدالة الاجتماعية أو مطالبة منا بالمشاركة في صنع القرار، وتأسيس نظام ثوري شعبي يساند القيادة إلا أننا في هذه الأيام وبالمقارنة بما يحدث الآن، نعتبر معاناتنا القديمة وكأنها لا شيء بالنسبة لمآسينا الحالية، وإقامتنا مشروعاً مضاداً يتحالف مع الاستعمار، ويستسلم للصهيونية، وتتشابك مصالحه مع الرأسمالية العالمية. أصبح كل من يرفض الاستسلام للصهيونية مغامراً رافضاً متاجراً بالحروب وكل من يناهض الاستعمار عميلا، وكل من يتحدث عن معاناة الجماهير كافراً ملحداً! كما يظهر الدين لنا هذه الأيام وكأنه قد أصبح الدعامة الأولى للثورة المضادة نظراً لغياب أي تنظير لها. فالطبقة التي بيدها المال والسلطة ليست في حاجة إلى تنظير بل وتدرك سذاجة المنظرين الجدد وسطحيتهم. لم يبق إلا اللجوء إلى الدين لتدعيم الثورة المضادة وإضفاء الشرعية عليه. فالدين يدعو إلى التوازن بين الدنيا والآخرة وعلى الفقراء المحرومين ألا يشغلوا أنفسهم بهموم الدنيا فالآخرة خير وأبقى. كما يدعو إلى التوازن بين الفرد والمجتمع، فعلى الأغنياء أن يقووا من فرديتهم وأنانيتهم ضد النزعات الاجتماعية. كما يدعو إلى التوازن بين العنصر المادي والعنصر الروحي، فعلى الفقراء أن ينعموا بالروح الباقية بدلا من المادة الفانية التي يعكف عليها الأغنياء! أصبح الدين في أيامنا مجموعة من الشعائر والطقوس، وإطالة اللحى، وتمتمة الشفاة، وإنارة المآذن، ولبس الحجاب حتى يحيد الشعور الديني عن البناء الاجتماعي ومظاهر الظلم والفساد وأشكال الطغيان. أصبح الدين في أيامنا دعوة إلى تطبيق الشريعة، وإقامة الحدود، ووضع مادة في الدستور تجعل الشريعة مصدراً أساسياً للتشريع، وإيقاف بيع المشروبات الروحية في شهر رمضان في الأماكن العامة على المصريين وحدهم دون الأجانب تشجيعاً للسياحة! كما أصبح دعوة لتطبيق الحدود قطع اليد ورجم الزاني على صغار الناس وإفساح المجال للمضاربات والرشاوى والعمولات بلا حدود، وانتشار قيم الاستهلاك والانحلال. وكلها مزايدات كلامية وتعمية على ما يدور في الواقع من اختلاس وحرائق ونهب لثروات الشعوب، وتبرئة للذمة للتستر على أسباب الجرائم الحقيقية في النظام الاجتماعي. أصبح الدين في أيامنا مجموعة من العقائد النظرية يؤمن بها الإنسان ولا ينتج عنها أثر عملي في الحياة الاجتماعية. كل من خرج عليها يكون كافراً، وذلك لمنع حرية الفكر والاجتهاد، وحتى لا ينكشف المضمون الاجتماعي للعقيدة فيثور الناس. أصبح الدين شيئاً والسياسة شيء آخر، وعدنا إلى المقالة الإبليسية القديمة التي روج لها الاستعمار. أصبح الدين مجموعة من القيم السلبية مثل الصبر والرضا والقناعة والتسليم والمحبة تدعو الناس إلى الاستكانة والرضوخ والاستسلام والخروج من حلبة الصراع الاجتماعي، وقبول الأمر الواقع، وانتظار الفرج القريب. فالإيمان يدعو إلى القبول والتسليم بلا تفكير أو اعتراض، والأصالة تحتم التصدي للنظم المستوردة، والصلابة تقف في مواجهة مخاطر الانقلابات وتغيير النظم الاجتماعية. أصبح الدين لدينا الآن «أفيوناً للشعوب» بعد أن كان «صرخة للمضطهدين». وقد ظهر البعد الثوري للدين في معظم المعارك التي دخلها ناصر: الدين والثورة (1952)، الدين والسلطة (1954)، الدين والوحدة (1958)، الدين والاشتراكية (1961)، الدين وعدم الانحياز (1965)، الدين والصمود (1967). ـ ـ ـ أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة