أصدر الصحفي الفرنسي الشهير «إينياس دال» مؤخراً كتاباً مهماً تحت عنوان: «الجمهورية الخامسة والعالم العربي» يناقش فيه التحولات التي عرفتها علاقات بلاده مع الدول العربية منذ عودة الجنرال ديغول للزعامة مجدداً، وتمريره لدستور جديد في سنة 1958 أسس لما عرف منذ ذلك الوقت في الأدبيات السياسية بالجمهورية الخامسة الممتدة حتى الآن. ويؤكد الكاتب ابتداءً أن الجنرال ديجول حين عاد لتسلم مقاليد الأمور وجد أمامه فرنسا مفتقرة لسياسة عربية تحدد الخطوط العريضة لمواقفها تجاه العالم العربي. وحتى ذلك الوقت كانت الملامح العامة لمواقف باريس وسياساتها في المنطقة ترزح في سياق سلبي، بشكل عام، بفعل تداعيات وإسقاطات حرب الجزائر، وحملة السويس (العدوان الثلاثي)، وتزويد إسرائيل بالتكنولوجيا النووية، وكانت هذه الخلفيات الصعبة هي ما يسيّج صورة السياسة الفرنسية تجاه المنطقة العربية إلى أن قرر ديغول تغيير مفردات هذه المعادلة واتباع سياسة جديدة ترضي طموحه وزعامته وتعطي بلاده دوراً وموقفاً جديدين مختلفين. وفي البداية عمل ديجول على إنهاء حرب الجزائر التي انتهت بانتصار الثورة الجزائرية وطي هذه الصفحة الصعبة من تاريخ فرنسا، كما قرر فتح طريق ثالث لسياسات باريس تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، بأخذ مسافة أمان محسوبة من الاصطفاف الكامل خلف إسرائيل كما كانت تفعل واشنطن تقليدياً، والدعم الكامل الذي كانت تبديه أيضاً موسكو السوفييتية تجاه بعض النظم الاشتراكية العربية يومذاك. وبين هذين التحيزين أو الانحيازين غير المشروطين أمسك ديجول العصا من المنتصف، محاولاً جعل الموقف الفرنسي مستقلاً في خياراته وتوجهاته، وفي الوقت نفسه لضمان إيجاد علاقات متوازنة بين أطراف الصراع بحسب التكييف والتصنيف الفرنسي لمفهوم التوازن في تلك الأيام. وعلى هذا النهج الديجولي الطموح الباحث عن طريق ثالث في الشرق الأوسط سار أيضاً بومبيدو، الذي بدأت أوروبا في أيامه وبمبادرة منه، وكان عدد أعضاء المجموعة الاقتصادية يومها تسعة فقط، تتحدث لأول مرة عن «الحقوق المشروعة» للفلسطينيين، في سنة 1973. ومنذ ذلك التاريخ صار لباريس صوت مسموع نسبياً في تحولات الصراع وفي مختلف أزمات وملفات المنطقة، وقد لعبت سلسلة من وزراء الخارجية الفرنسيين الأكفاء دوراً كبيراً في بلورة سياسات فرنسا تجاه المنطقة العربية كان من أبرزهم ميشل جوبير، وكلود شيسون، وهوبير فيدرين، وآلان جوبيه. ولكن على رغم كل هذا ظل أيضاً دور فرنسا، ومن ورائها أوروبا كلها، محدود الحضور والتأثير في المنطقة، حسب رأي الكاتب، وخاصة فيما يتعلق بفاعلية التأثير في جهود تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، الذي ظلت معظم أوراقه في الأساس بيد واشنطن، في حين بقي الدور الفرنسي والأوروبي مجرد داعم للسياسات الأميركية في سياق الاصطفاف الغربي العام، وقد بلغت درجة الاصطفاف الفرنسي وراء السياسات الأميركية الذروة في أيام الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، الذي انخرط في فيلق أتباع إدارة بوش، دون قيد أو شرط تقريباً. كما انتقد الكاتب أيضاً ما يعتبره انتهازية أو واقعية سياسية سلبية طبعت السياسة الفرنسية تجاه المنطقة في بعض الأحيان، حيث تغلّب باريس اعتبارات مصالحها على ما ترفعه من شعارات وخاصة في تعاملها المصلحي، المثير للجدل، مع نظم شمولية مثل الزعماء السابقين في بعض الجمهوريات العربية كالقذافي وصدام وغيرهما. كما أن هذه السياسة الفرنسية تفاعلت أيضاً في مرحلة لاحقة مع متغيرات جديدة مثل صعود خطر الجماعات الراديكالية في المنطقة، وبروز مشكلة المهاجرين من شمال أفريقيا كشريحة سكانية مؤثرة في فرنسا، وضمن نسيجها السكاني الداخلي نفسه. وفي الأخير يرى «دال» أن لفرنسا دوراً منتظراً ما زال في مقدورها لعبه حتى الآن في توسيع علاقاتها وشراكاتها داخل المنطقة، إن هي عرفت كيف تستعيد طريقها الثالث في سياستها العربية دون ارتهان لأي طرف دولي آخر، أو رهان على مواقف قد لا تعبر بالضرورة عن خصوصية الموقف السياسي الفرنسي. حسن ولد المختار ------ الكتاب: الجمهورية الخامسة والعالم العربي المؤلف: إينياس دال الناشر: فايار تاريخ النشر: 2014