نشر أعضاء ديمقراطيون في لجنة استخباراتية بالكونجرس الأميركي، في التاسع من ديسمبر الجاري، ورغم معارضة شديدة من الأعضاء الجمهوريين، 525 صفحة من دراسة للجنة عن برنامج الاحتجاز والاستجواب لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي. أي. أيه). وكانت حجة رئيسة اللجنة، السناتور الديمقراطي عن ولاية كاليفورنيا «ديان فاينشتاين»، أنه إذا لم يُنشر التقرير في الفترة التي مازالت تسيطر هي فيها على غالبية اللجنة، فلن يرى النور بمجرد أن يضطلع الجمهوريون بالسيطرة على كل لجان مجلس الشيوخ في يناير المقبل. والتقرير وملخصه جزء من وثيقة مازالت سرية مؤلفة من ستة آلاف صفحة تكلف إنتاجها 40 مليون دولار، وهي تفحص بالتفصيل الدقيق كل الحوادث المتعلقة بعمليات الاحتجاز والاستجواب التي أجرتها «سي. أي. أيه» منذ الهجمات على الولايات المتحدة في 11 سبتمبر عام 2001. وقرئ التقرير على نطاق واسع ووزع في أنحاء العالم وخلق عاصفة شديدة من الانتقادات للممارسات التي لا يمكن وصفها إلا بالتعذيب ضد الكثير من السجناء في غمرة الحروب في أفغانستان والعراق. ومن المثير للسخرية أن أكثر التعليقات غضباً على الدراسة جاء من الأشخاص ذاتهم الذين حرّضوا على ممارسة التعذيب في المقام الأول، وتحديداً كبار مسؤولي الأمن في إدارة الرئيس السابق بوش الابن. ففي يوم الأحد الماضي، 14 ديسمبر الجاري، أجرت شبكة «إن. بي. سي» مقابلة مع نائب الرئيس السابق ديك تشيني في برنامج «مقابلة مع الصحافة»، والذي يحظى بمشاهدة كبيرة، فأكد تشيني في ثبات أثناء المقابلة أن الممارسات لم تكن خاطئة وأنه لو اضطر لتنفيذها مرة ثانية لفعلها دون تردد. وكان تشيني وفريقه العامل يخشون من أن يكون العمل جارياً على تدبير هجوم كبير آخر على الولايات المتحدة وأن تكون هناك علاقة مباشرة بين «القاعدة» ونظام صدام حسين في العراق. وذكرت تقارير صحفية أن فريق تشيني أنفق ساعات في «سي. أي. أيه» يطالبون الضباط فيها بأن يعثروا على صلة بين الكيانين، وشعروا بإحباط شديد عندما جادلهم ضباط المخابرات بأنهم لا يستطيعون العثور على صلات من هذا النوع. ويستحق الضباط بعض التقدير في هذا الشأن، منذ أن شعروا بالإهانة بالفعل بسبب فشلهم في استكشاف هجمات الحادي عشر من سبتمبر والتصدي لها، وكانوا في حاجة لدعم معنوياتهم المتردية. وبلغت شدة انتقادات أعضاء جمهوريين بارزين في الكونجرس ما بلغته انتقادات تشيني من ضراوة تقريباً لقرار نشر التقرير. لكن هناك استثناء واحدا وهو «جون مكين»، السناتور عن ولاية أريزونا، والذي وقع هو نفسه أسيراً في حرب فيتنام وظل في الأسر ست سنوات تقريباً تعرض خلالها للتعذيب مراراً على يد آسريه. وجادل مكين على مدار سنوات طويلة بأن التعذيب خطأ أخلاقياً وعملٌ ضد القيم الأميركية، فضلا عن كونه أقل الوسائل كفاءة في انتزاع أسرار من الأسرى. ويضاف إلى هذا، أن استخدام ضباط مخابرات أميركيين أساليب التعذيب يجعل الأمر أكثر صعوبة حينما يراد تنفيذ اتفاقية جنيف لعام 1949 المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب التي تحظر التعذيب. وهذا يتعلق بمستقبل المعاملة التي سيتلقاها أفراد الجيش والمخابرات الأميركيين الذين سيجري اعتقالهم، مع الأخذ في الاعتبار الصراعات الدائرة حول العالم، والتي تتورط فيها القوات العسكرية الأميركية. وفي هذا الصدد يمثل مكين وتشيني نهجين مختلفين للغاية في جمع المعلومات الاستخباراتية. فكلاهما متشدد في السياسة الخارجية والدفاعية، لكن مكين -على عكس تشيني- خدم في الجيش الأميركي ويدرك جيداً طبيعة القتال وأهمية التزام الولايات المتحدة بمعايير الشرف في معاملة الأسرى الأجانب. وفيما يتعلق بمثول الضالعين في التعذيب في الوكالات الأميركية، فمن غير المرجح أن توجه الاتهامات بارتكاب جريمة لأي أحد. وحتى لو نشرت الستة آلاف صفحة للتقرير الكامل في نهاية المطاف، فسيكون من الصعب ومن غير العادل أن يُصب اللوم على الضباط الميدانيين المنفذين للتعذيب بينما ينجو الأشخاص الذين طالبوا باستخدام أساليب التعذيب من أي عقاب قانوني. والنتيجة النهائية أنه سيكون من الأصعب بكثير على الولايات المتحدة أن تصور نفسها باعتبارها داعماً قوياً للقيم العالمية التي كانت شعار السياسة الخارجية الأميركية على مدار قرن.