هل من المفيد أن ننسى الماضي ونلقي بمسؤولية التعذيب كاملة على وكالة الاستخبارات المركزية في وقت كان فيه البلد يخشى من هجوم ثان بعد 11 سبتمبر؟ وهل من المجدي التذكير بأن الجيش نفسه كان يحتجز عدداً أكبر من المعتقلين، ويمارس التقنيات العنيفة ذاتها على مدى زمني أطول؟ للإجابة عن هذه الأسئلة وفهم الجدال المحتدم حول التعذيب الذي مارسته الوكالة لا بد من تجاوز التقرير الأخير الصادر عن الكونجرس، والذي ينطوي على العديد من المغالطات. فالمحققون الذين أعدوا التقرير تعاملوا فقط مع وثائق تابعة لـ"سي. آي. إيه" ولم يستجوبوا المسؤولين وموظفي الوكالة المنخرطين في برنامج الاستنطاق، يضاف إلى ذلك أن اللجنة لم تستجوب أياً من المسؤولين الآخرين، لا سيما في البيت الأبيض، الذين خلص التقرير بأنهم تعرضوا للتضليل على يد وكالة الاستخبارات المركزية، وهو ما يقودنا إلى القول بأن التقرير اعتمد على معلومات منتقاة. لكن عندما حاولت اللجنة الدفاع عن التقرير وعن عملها قالت إنه لم يكن متاحاً لها الحديث مع محققي «سي. آي. إيه» بالنظر إلى التحقيق الجنائي الجاري، لذا لجأت بدلاً من ذلك إلى أكثر من مائة استجواب أجراه مفتش الوكالة نفسه مع الموظفين في تقريره الخاص الصادر في العام 2004، ومع أن المفتش العام لم يتعامل في تقريره مع مسؤولي البيت الأبيض، أو باقي الوكالات، إلا أنه وللمفارقة خلص في تقريره أن برنامج الاستنطاق المعزز «ساهم في توفير معلومات استخباراتية، والقبض على إرهابيين، كما نبه إلى خطط لضرب الولايات المتحدة حول العالم»، وهو بالطبع يناقض تماماً ما جاء في تقرير لجنة الكونجرس الأميركي الأخير. والحقيقة أني أعتقد بأن أي تحقيق شامل ومعمق سيكشف أن كبار المسؤولين في مكتب التحقيقات الفيدرالية ووكالة الاستخبارات المركزية كانوا يعرفون في سبتمبر 2001 أن جمع المعلومات الاستخباراتية حول الهجوم التالي لتنظيم «القاعدة» سيحتاج إلى طرق وأساليب قاسية في الاستنطاق، وهو ما عكسته المذكرة السرية التي وقع عليها بوش ستة أيام بعد هجمات 11 سبتمبر التي أعطت لـ«سي آي إيه» سلطات غير مسبوقة «للقيام بعمليات ترمي لاعتقال واحتجاز أشخاص يمثلون خطراً مستمراً ومحدقاً على أميركا ويهددون باستخدام العنف ضد أشخاص أميركيين ومصالح أميركية، والذين يخططون للقيام بأنشطة إرهابية». وكان موقف «سي آي إيه» أن قدرتها على جمع المعلومات الحساسة تعتمد على إعفائها من القيود المنصوص عليها في معاهدة جنيف، ما دفعها إلى البحث عن بلدان أخرى لاحتجاز المعتقلين حتى لا يسري القانوني الأميركي عليهم، ولأن البنتاجون كان يشغله نفس الموضوع وهو استنطاق معتقليه الذين يحتجزهم في أفغانستان، ثم بعد ذلك في جوانتنامو، وقع الرئيس بوش في 7 فبراير 2002 مذكرة تقول إن معاهدة جنيف الثالثة لا تنطبق على الصراع مع «القاعدة»، كما أشارت إلى أن معتقلي «طالبان» ومعهم عناصر «القاعدة» ليسوا أسرى حرب، بل مقاتلين غير شرعيين مستثنون من معاهدة جنيف. والخلاصة أنه بدلا من التعامل مع تقرير مجلس الشيوخ حول التعذيب على أنه شيء جديد، أو أن مسؤولي البيت الأبيض كانوا على غير دراية به وتعرضوا للتضليل لا بد من الاعتراف بأن عملية تبادل التهم الجارية حالياً لا تنسجم أولاً مع السياق العام الذي كانت فيه أميركا عقب هجمات 11 سبتمبر، وثانياً أنها لا تتفق والحقائق التي تؤكد أن الاستنطاق القاسي كان معمولاً به من قبل، وهو يتجاوز وكالة الاستخبارات إلى الجيش، ويتعدى المسؤولين الأمنيين إلى القادة السياسيين، الذين أزالوا العقبات القانونية أمامه وسوغوا له. والتر بينوكس: محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»