خلال العقود السبعة الماضية، شكلت المضادات الحيوية سلاحاً بالغ الأهمية في ترسانة الأدوية والعقاقير الطبية، كوسيلة فعالة لعلاج العدوى البكتيرية. إلا أن يوماً بعد يوم، تشهد هذه الطائفة من الأدوية، تراجعاً في مقدار فعاليتها، بدرجة قد تجعلها يوماً ما عديمة الجدوى، دون أن يكون هناك بديل آخر حالياً، أو حتى في المستقبل القريب. وهو ما قد يجعل من المستحيل تنفيذ الكثير من التدخلات الطبية، كالعلاج الكيماوي لمرضى السرطان، ويجعل العديد من الإجراءات الجراحية، كاستبدال المفاصل، ونقل وزراعة الأعضاء، خياراً غير مطروح. حيث يمكن أن ترتد قدرة البكتيريا على قتل بني البشر، لما كان الوضع عليه قبل عقود عدة مضت، حينما كانت الوفاة تنتج من جرح سطحي أو عدوى بسيطة. وتشير أصابع الاتهام حالياً إلى ثلاثة أنواع من الجراثيم، يُعتقد أنها ستكون ذات الوقع الأكبر في هذه الظاهرة المؤسفة، وهي بكتيريا «إي كولي»، والبكتيريا المتسببة في مرض السل، وطفيلي الملاريا. وتشير بعض التوقعات والتقديرات إلى أن البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، قد تتسبب في وفاة أكثر من عشرة ملايين شخص سنوياً، بحلول عام 2050، وهو ما سيشكل حينها عدد وفيات أكبر من الذي تتسبب فيه الأمراض السرطانية حالياً، وذلك مقارنة بـ700 ألف شخص سنوياً يلقون حتفهم بسبب هذا النوع من البكتيريا حالياً، 50 ألفاً منهم في أوروبا والولايات المتحدة، وهو العدد الذي يتوقع أن يتضاعف بمقدار عشرة أضعاف بحلول عام 2050. ويتوقع أيضاً أن تتحمل الدول النامية العبء الأكبر لهذه الظاهرة، حيث يقدر أن في نيجيريا مثلاً، ستتسبب العدوى بهذه «البكتيريا السوبر»، في واحدة من كل أربع حالات وفاة بحلول هذا التاريخ، كما ستشهد الهند زيادة سنوية في الوفيات بمقدار مليوني شخص، نتيجة السبب نفسه. وبخلاف هذه الثمن الإنساني الباهظ، الذي يخشى الكثيرون أن ينتج من زيادة مقاومة أصناف البكتيريا المختلفة لأنواع المضادات الحيوية المتوفرة حالياً، يوجد ثمن اقتصادي موازٍ، لا يقل عنه في الأهمية. حجم هذا الثمن الاقتصادي، جسدته تحليل اقتصادي صدر هذا الأسبوع عن عالم اقتصاد ذائع الصيت، هو «جيم أونيل»، الذي كلف من قبل رئيس الوزراء البريطاني «ديفيد كاميرون» في شهر يوليو الماضي برئاسة مجموعة خبراء لتقييم الموقف المتعلق بمقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية. وقدر هذا العالم ورفاقه في هذه التحليل المثير، أن ظاهرة زيادة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، ستكلف الاقتصاد العالمي نحو 100 تريليون دولار (367 تريليون درهم)، أو ما يعادل 35 ضعف حجم الناتج الاقتصادي البريطاني، والبالغ حالياً 3 تريليونات سنوياً. ويرد هذا الفاقد الاقتصادي الهائل إلى عدد الوفيات المقدر بالملايين، وما سينتج عنه من انخفاض في عدد السكان في الكثير من المجتمعات، بالإضافة إلى الأمراض والعلل التي ستصيب أفراد تلك المجتمعات، دون أن يكون هناك علاج فعال وناجع لها. ويؤمن فريق الخبراء بأن تحليلهم السابق، وما خرج به من تكلفة اقتصادية تقارب المئة تريليون دولار، يبخس المشكلة حقها، ويقلل من حجمها، ومن وقعها الاقتصادي، حيث إنه لم يتضمن التبعات والعواقب على نظم الرعاية الصحية، في عالم لم تصبح فيه المضادات الحيوية ذات جدوى. فالعديد من التدخلات الطبية الروتينية حالياً، سيصبح خياراً غير متاح، مثل الولادة القيصرية، التي يقدر أنها تساهم بمقدار اثنين في المئة في الاقتصاد العالمي، أو جراحات استبدال المفاصل، التي يقدر بأنها تساهم هي الأخرى في 0?65 في المئة في الاقتصاد العالمي، وغيرهم من الإجراءات العلاجية المعتادة، وهو ما سيكلف الاقتصاد العالمي 100 تريليون دولار إضافية. مثل هذه الكارثة الصحية والاقتصادية، يؤكد التحليل الاقتصادي سابق الذكر، ضرورة التعامل معها على ثلاثة محاور؛ أولاً: دراسة طبيعة الممارسات المتعلقة باستخدام المضادات الحيوية حالياً، وتعديلها وتصحيحها بشكل يقلل من خطر زيادة مقاومة البكتيريا لها. ثانياً: دعم وتعزيز الأبحاث والدراسات الهادفة إلى اكتشاف أنواع جديدة من المضادات الحيوية. ثالثاً: ضرورة تنسيق وتلاحم الجهود الدولية في ما يخص ممارسات استخدام المضادات الحيوية في الإنسان، وفي الحيوانات أيضاً. فمما لا شك فيه، أن الممارسات الخاطئة في استخدام المضادات الحيوية، تعتبر هي السبب الرئيس، في تولد مناعة ومقاومة للبكتيريا، وهو ما يستلزم تصحيح هذه الممارسات في أسرع وقت، إذا كان للجنس البشري أن يتجنب هذه الكارثة الصحية المرتقبة.