ليست هناك مناطق حصينة لحرب العصابات أكثر مِن الجبال والوديان والكهوف؛ قبل الغابات والأحراش، بل حصينة لمَن يُطارد لدينه أو مذهبه أو عقيدته، حتى إنه يمكن وصف جبال العراق بمتاحف الأديان والمذاهب، لكثرة مَن احتمى بها من غارات المتعصبين. فلولا صخورها ما ظل أيزيدية ولا كاكائية (نحلة عراقية يرى أتباعها أنها ديانة) وغيرهما، على قيد الحياة. بمعنى أن مَن يحتمى بها أو يتخذها مقراً لحروبه لا يخشى عدواً. فكيف إذا كان اللاجئ إليها متسلحاً بعقيدة دينية، كـ«القاعدة أو «داعش»؟ تشكل جبال العراق سلاسل تتشابك مع جبال تركيا وإيران، وممرات لا يعرفها إلا أبناؤها، ومَن اتخذها مقراً لغاراته على تلك الدول، فمنذ أربعينيات القرن الماضي، ظلت الجبال مصدر قلق للدولة العراقية، حتى كنا نسمع أن المقاتل الكردي المعتصم بالجبل لا يحتاج سوى تبغ وبندقية، والتبغ كانت المنطقة تنتجه والبندقية ليس أسهل من الحصول عليها. يصف الجواهري (ت 1997) تلك الحصانة قائلا في الملا مصطفى البارزاني (ت 1979): «وسط الجبال كأن صمَّ صخورها/ مِن بعض ما استصفى مِن الحجابِ». حتى في أشرس حرب (ربيع 1975) لم تتم إزاحة المقاتلين، والمصطلح عليهم بـ«البيشمركة» لولا مشاركة مقاتلين وأدلاء من المنطقة نفسها. صحيح أن اتفاقية 1975 المذلة مع إيران كان لها الدور الكبير، لكن لولا مَن عرفهم النظام العراقي بـ«الفرسان»، وعرفتهم الثورة الكُردية بـ«الجحوش» ما كان للاتفاقية أن تكون مؤثرة وبهذه السرعة. قامت عدة حركات مسلحة، بمناطق أخرى من العراق، لكنها لم تستطع الاستمرار، والعامل الأول في خمودها هو البيئة، فمهما كانت الأهوار كثيفة البردي والقصب فإنها لم تحم المقاتلين من الطائرات المروحية ولا من فوهات المدافع، كما كان الحال مع حركة «الكفاح المسلح» الماركسية (1968)، بقيادة أمين الخيون (اغتيل 1972) ورفاقه، وما قبلها بخروج عشائر المنطقة، لسنوات عديدة بقيادة غضبان الخيون (ت 1959) في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. كذلك لم تصمد الحركة التي عُرفت بحركة ريسان بسوق الشيوخ ضد الحكومة العراقية، فخمدت خلال فترة وجيزة، وذلك في الثلاثينيات. ولم تكن البوادي أو الصحاري بيئة حصينة كحصانة الجبال، فهي أرض مفتوحة لا يجد المقاتل فيها ظلا أو ملاذاً، ومازالت تجربة «القاعدة» والزرقاوي (قُتل 2006) حية، فقد تركها هارباً إلى بساتين ديالى، وكانت نهايته بقرية «هبهب» الشهيرة، بعيداً عن بادية الأنبار. قد يقول قائل وها هي أحد عشر عاماً والجماعات المسلحة تجول وتصول في عرض البيداء؟ هذا صحيح، لكن السبب معروف وهو وجود «جيش فضائي» وسياسات خرقاء. ومِن المعلوم أن جماعة «طالبان» وقيادة «القاعدة» ما كان لهما البقاء على قيد الحياة لولا جبال أفغانستان وباكستان، والبيئة واحدة، سواء أكانت في العراق أو أفغانستان. وقد قرأت في تاريخ الحركة الإسلامية الكردية العراقية أنها الأقرب لمقاتلي الأفغان والباكستانيين، بفعل تشابه الجغرافيا. لكن ماذا لو اتخذت الجماعات الدينية المسلحة من جبال العراق بيوتاً؟ ماذا لو تحولت كهوف ووديان جبال «قنديل» و«حصاروست» و«زاغروس».. مقرات لـ«القاعدة» و«داعش»، مثلما حاولت جماعة «أنصار الإسلام» تأسيس كهوفها العسكرية والفكرية وسط الجبال، وعبثت بمراقد النقشبندية وتكاياهم، وكلّ ما لا يتفق مع أجندتها، ومِن هناك تتمدد وتلتقي بأخواتها مِن قوى الإرهاب؟ بطبيعة الحال، لولا قوات البيشمركة، التي لها تجارب وخبرات في حرب العصابات والجيوش النظامية، لصارت جبال العراق مقرات حصينة للحركات الإرهابية، مثلما كانت للمقاتلين الكُرد من قبل، فتفرض تلك الحركات ما تريد وتزحف على المدن واحدة بعد الأخرى، وفي زمَن عراقي امتاز بوجود الجيش «الافتراضي» أو «الفضائي»، هرب قادته قبل جنوده. وبغض النظر عما بين المركز والإقليم، الذي تشكلت إداراته رسمياً (شكلياً)، بعد اتفاقية مارس 1970، من مشاكل عالقة، فالاعتراف بدور «البيشمركة» في الحؤول دون وصول الجماعات الإرهابية إلى عمق الجبال، يعبر عن التضامن والتكامل بين المركز والإقليم، في هذه الناحية بالذات، وبالتالي فإن التجاوب الأخير في حل المشكلات العالقة، والتي تعمقت إلى درجة خطيرة في الفترة السابقة، سيمنع أن تكون الجبال أوكاراً لجماعات لا يمنعها مانع من الزَّحف على البوادي والبطاح. فلنتخيل أحوال جبال العراق لولا مصدات «البيشمركة»!