مرّت أعوام عدّة ونحن نسمع ونقرأ روايات عن السجون السرّية و«الاستجوابات الشديدة» فيها لمعتقلين في إطار «الحرب على الإرهاب»، وشاهدنا أفلاماً هوليوودية ومسلسلات أميركية عن أساليب التعذيب وقصص مخزية واكبتها خصوصاً عندما يكون المعتقل ضحية خطأ أو تشابه في الأسماء. لذلك كان الانطباع العام، بعد إصدار الكونجرس تقريره عن ممارسات وكالة الاستخبارات الأميركية، أن معظم ما ورد فيه معروف. ومع ذلك شكّل جمع عناصر المشهد في كبسولة واحدة نوعاً من الصدمة، فالأمر ليس أفلاماً وحكايات متخيلة، بل إنه الواقع كما هو: فضيحة من بطولة «سي. آي. إيه» عصب النظام، واتهام من الكونجرس، كبرى مؤسسات النظام. أميركا تفضح أميركا. وهذا لا يحدث إلا في أميركا، التي لا تفتخر بما حصل، بل بقدرتها على كشف الحقائق، لكن التساؤل الذي يتبادر الى الأذهان: ما الفائدة؟ هناك طبعاً ما هو جديد. كالاستعانة مثلاً بخبرات إسرائيل في التهرّب من المسؤولية، وقد ذهب الأميركيون أبعد من «أصحاب الخبرة» بالتعاقد مع شركات خاصة. دفعوا عشرات ملايين الدولارات لقاء فنون جديدة ومبتكرة في التعذيب. إذ كان المطلوب إيصال الضحية إلى العالم الآخر وإعادته لاستخراج آخر معلومة علقت في بعض تجاويف دماغه. قيل الشيء وعكسه: نعم، الاستجواب الشديد (اللقب الفني للتعذيب) انقذ أرواحاً بشرية. لا، لم يفعل. تقرير الكونجرس كان حاسماً: لم يكن وسيلة فاعلة للحصول على معلومات أو تعاون من المعتقلين، وتأكيدات «سي. آي. إيه» في هذا الشأن غير دقيقة. تكرر اللغط نفسه في ما يتعلّق بتصفية أسامة بن لادن. فما الذي يقترحونه على الرأي العام إذاً؟ أن يتفهّم «اضطرارهم» إلى تعذيب كانوا يعرفون أنه «غير قانوني» و«لم تسمح به وزارة العدل» وأخفوه عن الرئيس. لقد برهنوا بوضوح أن أميركا بعد 11 سبتمبر لم تعد أميركا. صارت موتورة ولا تهجس إلا بالانتقام. ها هو أوباما يقول إن ما كشفه تقرير الكونجرس يقوض «السلطة الأخلاقية/ المعنوية» للولايات المتحدة. شعوب كثيرة كانت/ أو لم تعد منذ زمن تعتقد بوجود مثل هذه «السلطة» التي تدّعيها أميركا لنفسها. فمنذ قنبلتي هيروشيما وناجازاكي، وحرب فيتنام، والتغطية (المستمرّة) للإجرام الإسرائيلي، والقصف «السجّادي» لأفغانستان (لم يُحصَ عدد من قضوا فيه)، ومنذ الحرب التي خربت العراق إلى أجل غير معلوم وربما إلى الأبد، فقدت أميركا أخلاقيتها، والذين يقولون اليوم، عن حق، أن لا تبرير للإرهاب لكنهم يتساءلون عن «أسبابه» ويدعون إلى معالجتها، ربما يحصلون على جزء من الجواب متى عرفوا أن أميركا كانت في كل المحطات التي ولد فيها الإرهاب وترعرع حتى توحّش ليبلغ أقصى فظاعاته مع تنظيم «داعش». فـ «القاعدة» ولدت في أفغانستان، وخرّيجو جوانتانامو عادوا إلى أنشطتهم في «كتيبة خراسان» مبايعين «داعش»، وعدد من قادة التنظيم هم إمّا عسكريون طردهم الاحتلال الأميركي، أو ممن سجنهم ثم أطلقهم وهم متحفّزون للثأر. واقع الأمر أن التعذيب بات من «بديهيات» السلطة، فكلما بدت المخاطر داهمة كلما فقد السجّان والسجين صفتهما البشرية، فيصبحان مجرد آلتين للاستنطاق والاعتراف. الحكّام يريدون نتائج سريعة، لذا يذهب الأمنيون الى أقصر الطرق، وكل ما عدا ذلك مجرد جدل في أحكام الأخلاق وأحكام الضرورة. وفي خلفية الجدل الراهن توجد دولة عظمى تحاجج بالقانون والمبادئ، لكنها فاجأت الجميع باقترابها من تقاليد «جمهوريات الموز» مع فارق أن الأخيرة لا تهتم بسمعتها الدولية. من هنا كان رصد ردود الفعل على التقرير ذا دلالات، إذ راوحت بين حدّين بديا متشابهين في النهاية، أولهما صمت عربي رغم أن معظم «ضحايا التعذيب» من العرب، والثاني ادانات شديدة من دول لا تتمتع بسجل ناصع مثل كوريا الشمالية والصين وإيران وحتى أفغانستان. وبين هذين الصمت والإدانة طُرحت في الغرب أسئلة حارقة يُرجّح أن تبقى بلا إجابات: هل نستطيع الوثوق بالـ «سي آي إيه» بعد الآن، هل يُحاسَب المسؤولون عن تلك الممارسات، هل تترجم المصارحة الأميركية بترشيد للسياسات الخارجية، هل تمتد الشفافية الى حدّ اتخاذ موقف من جرائم إسرائيل؟ أما الأهم فنجده في استخلاص أوروبي يطالب بعدم منح أي حصانة للأمنيين الأميركيين خلال مهماتهم في الخارج. لكن حجب الحصانة يساوي التخلّي عن الحاجة إلى أميركا، وبالتالي إلى «السي. أي. إيه»، ولا يستطيع ذلك إلا الراسخون في التعذيب. اسألوا النظام السوري.