تخيل أنك نشأت على الكذب، ليس فقط بقدر ضئيل للمواءمة، ولكن في كل لحظة من حياتك داخل المدرسة والعمل والأحداث الاجتماعية. وتخيل أنه كان يتعين عليك الكذب من أجل البقاء، لأن عقوبة الصدق هي خسارة وظيفتك الأكاديمية أو حياتك المهنية أو ربما السجن.. هذا هو نمط الحياة الوحيد الذي يعرفه الروس الذين ولدوا قبل عام 1991! وقد نشأ الجيل الناضج على هذا السلوك أثناء السنوات الأخيرة من عمر الاتحاد السوفييتي، فكان يقرأ روايات ألكسندر سولجنيتسين ويسمع تقارير «بي بي سي» سراً بينما يتظاهر بأنه شيوعي صميم أو عضو أصيل في رابطة الشباب الشيوعي. وعندما ذهبت إلى العمل كمعد برامج تلفزيونية في موسكو في بداية العقد الماضي، سألت أقراني عن «شخصياتهم» التي نشؤوا عليها وما إذا كانت تعبر عنهم حقيقة، وكيف يفرقون بين الحقيقة والأكاذيب، فأخبروني: «ينتهي بك المآل إلى العيش في وقائع مختلفة، مع حقائق متعددة وشخصيات متباينة بداخلك». وعندما اعتلى أفراد منذ هذا الجيل سدة الحكم، أنشؤوا مجتمعاً كان عبارة عن مزيج من المحاكاة والادعاءات تضمن انتخابات مزورة وصحافة حرة زائفة وسوق حرة مزيفة وعدالة مستعارة. ويقوده وطنيون روس متدينون يلعنون الغرب الفاسد، لكنهم في الوقت ذاته يرسلون أبنائهم وأموالهم إلى لندن، ويتابعون البرامج التلفزيونية التي تمجد بوتين نهاراً، ويستمعون إلى المحطات الإذاعية التي تناهضه ليلاً وعندما يستقلون سياراتهم بعد العمل. ويبدو الأمر وكأنه تشجيع للمرء على أن يعيش بهوية في وقت ونقيضها في وقت آخر. ومن ثم يكون دائماً مشتتاً لا يقوى على الالتزام بتغيير الأمور. وفي خضم هذا التشتت والتشرذم هناك راحة أيضاً، فلا أنت تسرق من تلك الموازنة، ولا تصنع ذلك البرنامج الدعائي أو تجثوا على ركبتيك خضوعاً للرئيس.. لأداء مجرد دور. وإن كانت جل الثقافات تفرق بين الذوات العامة والخاصة، لكن ذلك التقسيم في روسيا مشاع. وهدف «الكرملين» هو السيطرة على جميع الروايات، بحيث تصبح السياسة من برامج تلفزيون الواقع العظيمة ذات السيناريوهات المحددة. وتوضح الطريقة التي يهيمن بها الكرملين على السلطة تلك النفسية وتعززها. ولنأخذ على سبيل المثال فلاديسلاف سوركوف، مستشار الرئيس فلاديمير بوتين الذي يُقال إنه يدير ـ من بين أمور أخرى ـ الصورة العامة للزعماء الانفصاليين في شرق أوكرانيا. فقد ساعد على ابتكار سلالة جديدة من الطغيان لا تعتمد فقط على سحق المعارضة من أعلى، ولكن أيضاً على التسلل إلى جماعات المصالح المختلفة والتلاعب بها من الداخل. وعلى مكتبه في الكرملين، توجد هواتف تحمل أسماء زعماء ما يُفترض أنها أحزاب مستقلة. فيلعب الزعماء القوميون مثل فلاديمير زيرينوفسكي دور مهرج جناح اليمين لكي يبدو بوتين معتدلاً على النقيض. "سوركوف" من جهة يدعم جماعات حقوق الإنسان المكونة من منشقين سابقين، بينما ينظم من جهة أخرى جماعات الشباب المؤيدة للكرملين مثل «ناشي»، التي تتهم زعماء حقوق الإنسان بأنها أدوات للغرب. وفي رواية، يفترض أن من كتبها هو «سوركوف» البوهيمي المحب للفنون عندما لا يشن حروباً سرية، يحتفل بانتصار الفلسفة التشاؤمية لجيل ما بعد الاتحاد السوفييتي الذي أدرك أوهام الإيمان بأية قيم أو أيديولوجية. ويؤكد زملائي من موسكو: «إن كل شيء عبارة عن علاقات عامة»، وهذه الفلسفة التشاؤمية مفيدة للدولة، فعندما يتوقف الشعب عن الثقة في أي مؤسسات، يمكن بسهولة أن ينزلق في رؤية المؤامرة العالمية. ومن ثم ينشأ التناقض: انعدام الثقة في مواجهة سهولة الانقياد. وبينما يتلاعب الكرملين بالغرب، نراه يستعمل أساليبه التي يستخدمها في الداخل في الشؤون الخارجية. فنجده يغازل النخب المالية الغربية، بما في ذلك جماعات الضغط المالي الألمانية والأميركية التي تعارض فرض عقوبات جديدة، بينما يدعم البرامج المناهضة للرأسمالية مثل «برنامج كسر القوالب»، الذي تعده وتقدمه "آبي مارتين" على فضائية «آر تي» (روسيا اليوم سابقاً)، في حين يشجع جناح اليمين الأوروبي بالمال والدعم لأحزاب مثل الجبهة القومية في فرنسا. وفي حين لا يمكن للكرملين أن يأمل في السيطرة على الغرب كما هي الحال بالنسبة للوضع الداخلي، لكن هدفه غرس الفرقة والشقاق وتشتيت العدو من خلال حرب المعلومات. وجوهر هذه الاستراتيجية فكرة أنه لا يوجد شيء اسمه الحقيقة الموضوعية، ويسمح هذا المفهوم للكرملين باستبدال الحقائق بمعلومات مغلوطة. إعلامي بريطاني ------- بيتر بوميرانتسيف يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»