التاسع من يوليو من سنة 2011 كان مولد دولة جنوب السودان، ومنذ ذلك التاريخ، والأمم تتداعى على جنوب السودان لِنهب ثرواتِه وجعله ورقة رابِحة في مُعادلات التسويات الدولية العابرة للقارات بين الكِبار، وتطويق الدولة ووضِعها تحت رحمة شُحنة سِلاح متطورة، ودفعات مقدمة من إغراءات الثراء السريع، وتمويل وتدريب ميليشِيات الجِياع لتحويل الداخل لجحيم لا يطاق في رُؤى عمياء تعمل على الموت الإكلينيكي لمفهوم التعايش السلمي في جنوب السودان، والضغط على جيرانها في أبشع صور وأنواع الابتِزاز الجيوسياسي والاقتصادي، وذلك بعد أن احتشد التنين والكاوبوي والقيصر والمخادع السلِس والمُتحضر المُتعجرِف والمُقامِر الأحمق ورجُل الدين المرابي وتاجر الشُنطة كلٌ يسير تحت عباءة تنين أو كاوبوي، أو يختبئ في ظِلِهِم لِتقاسم ودي للنفوذ في تلك الدولة الوليدة، بل القارة لإحداث تغيير عميق في المفاهيم الجيوستراتيجية، بُغية السيطرة والهيمنة الناعِمة في حُمى الذهب والنفط والثروات الطبيعية، والمنافِذ والممرات الدُبلوماسية الحيوية في لُعبة استراتيجية، فيها حقوق الإنسان معروضة للتأجير أو البيع. من جانب آخر، يَبرُز التنافُس الأميركي - الصيني المِحْوري في السودان لِيَشعل الحُروب والنِزاعات ويضع حداً ونِهاية لها وِفق ما تقتضيه مصالِحُها، فكانا يتناوبان على مُمارسة الضغط من عدمِه على الحُكومة في الخرطوم لِوقف العُنف في دارفور، وبالرُغم من كُل العداء الظاهِر، فإن الهدف الأساسي لِواشُنطُن هو التطبيع مع الخرطوم لأهمية ذلك في صِراعِها الدولي مع الصين وفرنسا وروسيا وإسرائيل، وبصورة أقل الهِند وتُركيا وبعض الدُول الغنية الصغيرة على موارِد السودان بشماله وجنوبه ودارفور. فالتنازُلات السياسية مُقابل المكاسب الاقتصادية هي أيقونة القوى الإمبريالية التي لا تخجل من أن تتجاهل نتائج فريق محكمة العدل الدولية ولجنة منظمة العفو الدولية. فأميركا مثلاً تعتمِد على نِفط غرب أفريقيا بنسبة 22% من جُملة نِفطِها المستورد، وستزيد تِلك النِسبة تصاعدياً في السنوات القادمة في ظل حروب أسعار الطاقة والعرض والطلب. ووفقاً لإحصائِية شركة «بي. بي» البريطانية، يبلُغُ الاحتياطي المؤكد من النفط نحو 3.5 مليار برميل في جنوب السودان، و1.5 مليار برميل في السودان ويُراهن الأميركان بأن لهم حظوة لدى القِيادات المُتمرِدة في جنوب السودان، وتمركُز قوات المارينز الأميركية في الجنوب بعكس الصين غير المُرحِب بها كثيراً، ولكِنها استثمرت المليارات منذُ 1995 ويتواجد ما يُقارب مليون عامل صيني في أفريقيا، وقُرابة 800 شرِكة حُكومية فقط من غير القطاع الخاص، يعمل أغلبُها في قِطاع الطاقة والبُنى التحتِية والمصارِف، وفي جنوب السودان بالتحديد أكثر من 140 شرِكة صينية. فكُل أطراف الصِراع يأملون بالحصول على موطئ قدم في قِطاع النِفط والاقتصاد المُتداعي في جوبا، والذي لا تزال تهيمن عليها الشركات الآسيوية، خاصة من الصين دون أن ننسى أن جنوب السودان يعتمِد على خطوط الأنابيب، التي يتم تشغيلها لتصدير نفطها من خلال الخرطوم، على الرغم من كُل المحاولات لإيجاد البدائل، وفي المُقابل ذكريات شبح التجرُبة الليبية يؤرق العقول الروسية والصينية، وحلول الشركات الغربية كبديل لها في ليبيا يجعلُنا نتساءل: هل سيتكرر السيناريو؟ وما هو دور حُلفاء إسرائيل من المحافظين الجدد ولوبيات اقتصاد الطاقة في واشنطن وغيرِها من العواصم الغربية في دعم استقلال جنوب السودان؟ وهل تشعُر مصر والسودان بالقلق الشديد إزاء وجود إسرائيل الثقيل في جنوب السودان ومُستقبل السلامة الإقليمية في ظِل صفقات مشبوهة لتطوير البُنية التحتية للمياه والتكنولوجيا؟ ولا أعتقد أن مُوظفي تِلك الشركة من المُهندسين مُتخصصون في البُنية التحتية للمياه بل مُتخصصون في تفتيت البُنية التحتية للأمن القومي العربي، وشق قنوات للأسلحة، وتدريب المُتمردين وتقوِيض نِظام الخرطوم الإسلامي وتحالِفها مع طهران، والوصول إلى نهر النيل وتحقيق الأمن الغذائي الإسرائيلي. فمِنَ الواضِح أن الصِراع في الجنوب ليس مسألة عداء بين قبيلتيّ الدينكا والنوير، وتحوُل جوبا إلى عاصِمتين لِتتداخل فيه دول أفريقية مثل أوغندا والسودان وأثيوبيا وكينيا وإريتريا، والتي تميل مع الجانِب الصيني لدعم رئيس جنوب السودان المُنتخب سلفاكير حتى يتمكن من السيطرة على المُعارضة بقيادة نائِبِهِ الأسبق «ريك مشار»، الذي يعتقد بِأنهُ الدُميّة الأميركية في الجنوب، وكما هو الحال في الدُول الأفريقية، فالنِفط هو لعنة الفقراء، وإرث استِعماري قذِر جعل الحيوانات الأليفة لمن يسيطِرون على تلك الحكومات تُعالَج في أكبر العِيادات في أوروبا، وشعوبُهم تموت من الجوع والإهمال. ولكن من يجرؤ على إدراج الدول التي دعمت حركات التمرُد طوال فترة الحرب الأهلية وإحداث الدمار وملايين الضحايا ضِمن الدُول الداعمة للإرهاب؟ ومن يسعى لِوقف مُسلِمي الشمال من موسِم الهِجرة المُستقبلي إلى الجنوب؟ ومن سيوقِف انتشار دويلات أُمراء الحرب، ويُقنِن قانون الغاب المنفعيّ الفردي الذي يحكُمُهُم وخلفُهم آلة الجشع والطمع الأمبريالي المُدمرة؟ كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات