أقام الأزهر في الثالث والرابع من ديسمبر الجاري، مؤتمراً كبيراً لمواجهة التطرف والإرهاب. وفي العاشر من الشهر ذاته، وفي اجتماعٍ للمنظمة العالمية للدعوة والإغاثة، حمل شيخ الأزهر على المفاهيم المشوَّهة للحاكمية والتكفير والتطرف باسم الدين، وأَعلن عن إنشاء لجنة للمصالحات العربية والإسلامية. وكلا الأمرين لافتان. فقد تحركت المؤسسات الدينية الكبرى بالمغرب والسعودية وباكستان ضد التطرف والإرهاب واستخدام العنف باسم الدين. وأصدرت مؤسساتٌ أُخرى عدة بياناتٍ بهذا الصدد. بيد أنّ تركيز شيخ الأزهر في الشهور الأخيرة على نقد تحريف المفاهيم، وعلى الدخول في مصارحات ومصالحات ووجوه تضامن، كلا الأمرين يتجاوز الحملة على العنف باسم الدين، وفي اتجاهات واعدة. إنّ الظاهرة الدينية المتطرفة أحدثت انشقاقات في قلب الدين، ما تزال تتصاعد وتتفاقم. وظواهر مثل «القاعدة» و«داعش» لعبت وتلعب بها الجهات الدولية والإقليمية. لكن أصل الظاهرة القائم على التكفير والقتل باسم الدين والتوسل برؤية الحاكمية لاصطناع دولة دينية، كل ذلك ما جرى التنبُّهُ له من قبل بل مضى الناقدون مباشرةً إلى إدانة التطرف باجتراح العنف باسم الدين. لقد رأيتُ من قبل في كتابي «أزمنة التغيير.. الدين والدولة والإسلام»، وفي محاضرتي بالمؤتمر الإسلامي بالأزهر، مطلع الشهر الجاري، أنّ الظاهرة أو الظواهر العنيفة باسم الدين وما تفرع عنها، ينبغي مواجهتها بأسلوبين متوازيين: النهوض الفكري والإصلاح الديني بالتركيز على نقد عمليات تحويل المفاهيم وتحريفها، مثل الإيمان والكفر، الولاء والبراء، الحاكمية والدولة، وعلائق الدين بالدولة. وبالتوازي مع هذه المراجعة، ينبغي النهوض بالمؤسسات الدينية لكي تستعيد مهامَّها التي أهملتْها أو ضعُفت عن القيام بها أو فقدتها لصالح الأُصوليات والإحيائيات. فخلال القرن العشرين، كانت مهام المؤسسات الدينية قد استقرت على التالي: القيام على العبادات- والفتوى- والتعليم الديني- والإرشاد العام. ولا شيئ من ذلك حدث على الوجه المرغوب اليوم. كلا الأمرين (أعني النهوض الفكري والديني، وإصلاح المؤسسات الدينية) تعرض للضعف أو للاختلال. ففي قضايا النهوض فكرياً ودينياً حدث انقسام بين الإصلاحيين العرب أدى إلى صراع بين أطراف متخاصمة على مدى نصف قرن. فقد انصرف القوميون واليساريون إلى نقد التراث والموروث في مشروعات اعتمدت مقولتي: التحرر من التراث، أو تحرير الجمهور من قبضته. وعلةُ ذلك أنه حائل بتقليديته دون الدخول في الحداثة والتقدم، وأنّ الأُصوليات استغلته في عمليات صعودها المتفاقمة. وقد دفع ذلك رجالات المؤسسات الدينية، والمثقفين المتدينين من غير الحزبيين إلى الانصراف لمواجهة اليساريين باسم الدفاع عن الإسلام في وجه التغريب والعلمنة، والدفاع من جهة أُخرى عن أمجاد الإسلام والتقليد الإسلامي. وأفسح ذلك في المجال للأُصوليين والإحيائيين للانفراد بتأويلات ما أنزل الله بها من سلطان لمفاهيم إسلامية أساسية مثل الجهاد والإيمان والكفر وعلائق الدين بالدولة. وأعانتهم على هذه التشويهات وجوه الفشل التي وقعت فيها الأنظمة العربية، العسكرية والأمنية، التي فشلت في صون المصالح الوطنية والقومية. وقد كسبت التأويليات الإحيائية هذه أجيالاً من الشبان الذين تحمسوا للدولة الدينية ولإقامتها بالعنف تحت اسم الجهاد! لقد رأيتُ بعد طواف بين المؤسسات الدينية بالمغرب والسعودية ومصر على مدى العامين الماضيين، أن تلك المؤسسات بدأت الاندفاع لمكافحة التطرف والغلو في الدين. وتركيز شيخ الأزهر على الحاكمية والتكفير والجهاد وتحويلات الأصوليين لهذه المفاهيم، يدل على إدراك للمشكلة، وأنها في الأصل انشقاق في الدين. ولا شك أن علماء الإسلام المستظلين بالمؤسسة يستطيعون التصدي لتحويلات المفاهيم. أما أن يقترن ذلك بنهوض فكري وثقافي؛ فإنه يتطلب تعاون المثقفين والمفكرين عبر مراجعة مفاهيمهم ومناهجهم بشأن الدين والتراث والدولة؛ فلا يدخلوا مرةً أُخرى في الحملات على الدين تحت اسم التراث أو الموروث أو أي اسم آخَر. ويريد شيخ الأزهر الدخول في المصالحات بين العرب والمسلمين. وهذا أمر محمود بدأه الملك عبد الله بن عبد العزيز قبل مؤتمر الدوحة. والذي أحسبُهُ أننا بحاجة للتعاون والتضامن بين المؤسسات الدينية، وهو تضامن لا يستطيع إحداثه إلا موقف شيخ الأزهر من الوحدة العربية والوحدة الإسلامية. هناك إجماع على شيخ الأزهر، كالإجماع على مصر.