لاشك أن إعلان صندوق النقد الدولي هذا الأسبوع بأنّ الاقتصاد الصيني قد أصبح أكبر اقتصاد عالمي، وأنّ حجم هذا الاقتصاد قد وصل إلى 17,61 تريليون دولار، مقابل الاقتصاد الأميركي الذي وصل حجمه إلى 17,4 تريليون دولار، قد أثار اهتمام الصحافة الأميركية والعالمية. واعتبرت مثل هذا الخبر بادرة لتراجع الولايات المتحدة التي كان اقتصادها يتربع على عرش اقتصادات العالم منذ عام 1872، أي طوال حوالي 142 عاماً مضت. والحقيقة أنّ الاقتصاد الصيني كان مزدهراً خلال الثلاثة عقود الماضية، ومنذ أن فتح «دينج زياو بنج» الباب على مصراعيه أمام الاستثمارات الخارجية لتشغيل شعب يصل تعداده إلى أكثر من مليار وثلاثمائة مليون إنسان، عام 1981، بات هذا الاقتصاد يجتذب المستثمرين ورؤوس الأموال من أركان العالم المختلفة. والعجيب أن مثل هذا التحوّل لم يكن طارئاً أو جديداً، فمنذ مطلع هذا القرن والكتب والمقالات العلمية تتوالى لتؤشِّر إلى صعود التنّين الآسيوي، غير أن معظم هذه المقالات كانت تشير إلى بداية الثلاثينيات كموعد لصعود النجم العالمي الجديد. وفي كتاب «شو» الشهير، الذي صدرت أول طبعه منه في عام 2007، أشار إلى أن الاقتصاد الصيني سيتغلب على الاقتصاد الأميركي بحلول عام 2019. وهكذا استطاع هذا الاقتصاد أن ينمو بوتائر متسارعة ليضمن الوصول إلى هذه النقطة التاريخية قبل الموعد المحدد له بأربع سنوات. ومع أن اهتمام الصحافة العالمية قد انصبّ فقط على الاقتصادين الصيني والأميركي، إلا أنّ سلّم التراتب الاقتصادي العالمي الذي أعلنه صندوق النقد الدولي قد تعدّى ذلك ليشير أيضاً إلى أن الاقتصاد الهندي بات ثالث أكبر اقتصاد من نوعه في العالم، وتراجع حجم الاقتصاد الياباني إلى المرتبة الرابعة، وتقدمت دولٌ متحفزة جديدة مثل روسيا (بغضّ النظر عن العقوبات)، والبرازيل، إلى مراتب متقدمة منافسة بذلك دولاً أوروبية ذات اقتصادات قوية وعريقة مثل ألمانيا وبريطانيا. والشيء المريح بالنسبة لنا كدول خليجية، هو أن تقرير الصندوق جاء إيجابياً كذلك لهذه المجموعة، حيث توقّع نموها هذا العام بنسبة 4,5%، وربما يتراجع هذا النمو بعض الشيء إلى 4,2% بحلول عام 2018. غير أنّ هذا التقرير صدر كذلك قبل التراجع الحادّ الذي شهدته أسواق النفط خلال الشهر الجاري. ويشير تقرير الصندوق إلى أن دول الخليج يمكن أن تستهلك معظم احتياطياتها وفوائضها المالية التي تموّل ميزانياتها، بحلول عام 2019. وتشير التقارير كذلك إلى أن مستوى معيشة الفرد في الولايات المتحدة أعلى بكثير من نظيره في الصين. غير أن الإشكالية التي طالما واجهت صنّاع القرار في العالم أجمع، هي التوازن بين الخبز والبندقية. فكلما زاد الصرف والإنفاق العسكري، كلما تراجع الإنفاق المدني، وتراجعت وتيرة النمو الاقتصادي. ولنا في الحالة الصينية والأميركية أوضح مثال، فالولايات المتحدة تنفق في المتوسط ما بين 550- 600 مليار دولار سنوياً على مصروفاتها الدفاعية (39% من الإنفاق الدفاعي العالمي). بينما تصرف الصين على جيشها ربع ما تصرفه الولايات المتحدة (161 مليار دولار، أي 9,5% من الإنفاق الدفاعي العالمي). وقد دخلت الولايات المتحدة في حروبٍ مريرة ومكلفة اقتصادياً خلال الخمسة عشر عاماً الماضية، في العراق وأفغانستان، ولا زالت تحارب الإرهاب بتكلفة أقل، في كلٍّ من العراق وسوريا واليمن وباكستان. بينما لا نجد في الصين تدخّلاً في صراعات عسكرية مكلفة، سوى بعض المناوشات حول بعض الجزر المتنازع عليها مع بعض دول الجوار، في بحر الصين الجنوبي. وهكذا هي المعادلة، فكلما زاد إنفاقك الدفاعي، تراجع إنفاقك المدني، وتراجع نمو الاقتصاد. ولا يمكن لدولة أن تكون غنيّة وقوية لفترةٍ طويلة، وربما أغرتها الأموال للدخول في مغامرات عسكرية خارجية، غير أن مثل هذه المغامرات تكون لها تكلفتها الاقتصادية. ولنا في التاريخ الأوروبي أوضح برهان، فقد قضت الحربان العالميتان الأولى والثانية على ثروات كلٍّ من بريطانيا وفرنسا، وعلى رغم انتصارهما في هاتين الحربين، فقد وجدتا نفسيهما مرغمتين على الاقتراض الخارجي مع نهاية الحرب العالمية الثانية. والشيء التاريخي في حلول الاقتصاد الصيني في المرتبة الأولى عالمياً، هو أن مركز الثروة العالمية قد بدأ في التحوّل من الغرب إلى الشرق. فلو درسنا التاريخ الاقتصادي القديم، لوجدنا أنّ الثروة كانت في بلدان الشرق الأوسط القديم، الذي هو مهد الحضارات، ثم انتقلت هذه الثروة إلى المدن الإيطالية التجارية، التي كانت تتاجر مع الشرق الأوسط والعالم العربي. لتحل بعد ذلك بكل من إسبانيا والبرتغال بفتوحاتهما التاريخية واستحواذهما على الذهب والفضة في القارة الأميركية الجنوبية، ثم تلا ذلك انتقال الثروة إلى أصحاب البنوك والأساطيل التجارية المنافسين في هولندا وبريطانيا، ودخلت أيضاً فرنسا في اللعبة الاقتصادية عن طريق الانخراط في الثورة الصناعية التي بدأت في بريطانيا. وخلال القرن التاسع عشر، غادرت الأموال وأصحابها إلى العالم الجديد في الولايات المتحدة، حيث هاجر حوالي 30 مليون أوروبي إلى العالم الجديد. والتحم العامل الأوروبي برؤوس الأموال، وكذا الموارد الطبيعية الضخمة، ليخلق أكبر اقتصاد عالمي تربّع على عرش الاقتصاد الكوني لحوالي قرن ونصف قرن من الزمن. وهكذا تعود الدائرة اليوم من جديد إلى آسيا، التي لا تشهد فيها الصين فقط ازدهاراً ونمواً، بل تشهد أيضاً معظم بلدان شرق القارة مثل هذا الازدهار، سواءً في اليابان أو في كوريا الجنوبية أو إندونيسيا وماليزيا. والعالم لا يعرف الهدوء، فالتغير الاقتصادي والسياسي هو سُنّة الكون والحياة. وكلما زاد اهتمام الناس بالتعليم والتجارة والصناعة والاستثمار والاختراع، كلما زادت ثرواتهم، والعكس بالعكس. ------------------ أستاذ العلوم السياسية - جامعة الملك سعود