تظهر أهمية الدور الذي ينبغي أن يقوم به فقهاء الأمة وعلماؤها في الوقت الراهن، من خلال إيجاد الصورة الأخرى لإسرائيل بعد أن حاولت أجهزة الإعلام تغييرها، وأصبح الإسرائيليون نموذج التحديث في زراعتهم للصحاري، وتشييدهم للمستعمرات والمدن الجديدة، وتأسيسهم للصناعات، وعلمهم وثقافتهم وخبرتهم. وحاول البعض منا حتى تغيير صورة اليهودي في التاريخ والمخيال الغربي بأنه لم يعد ذلك أحدب الظهر، مقوس الأنف، المرابي العجوز، «شيلوك» الأدباء، بل إنسان معتدل القامة، حسن المظهر والصوت، إنسان مثل بقية البشر. واستمرت بعض أجهزة الإعلام في مدح الخدمات الجديدة في القدس الشرقية من نظافة وطرق ومياه وكهرباء! وفي مواجهة هذا الإعلام يهدف هذا المقال إلى إعطاء صورة «بني إسرائيل» القدامى في القرآن الكريم حتى تعرف الأمة أي الصورتين أصدق. والاعتماد على القرآن وحده هو الرجوع إلى الأصل أولاً وهو أوعى وأشمل وأكمل، أو أن يفسر أحد وقائع التاريخ النبوي وأقواله بصراع مع اليهود، وتحويل الأحكام العامة إلى ظروف ومناسبات طارئة خاضعة لمجريات الأحداث وتقلبات الزمن. كما لم تتم الإشارة إلى وقائع التاريخ، سواء في حياة النبي، صلى الله عليه وسلم، أو الصحابة أو فيما بعد، فالوقائع لابد أن تكون شاملة غير منتقاة سلفاً بناء على غاية المؤرخ وهدفه، كما أنها تخضع للتفسير والتأويل. وقد يأتي فيما بعد من هو أعلم بالتاريخ، وبالتالي تصعب مجاراته في كثير مما يختار، وكثيراً ما يختار المؤرخ وقائع دون أخرى، أو يؤول الوقائع على هواه. والتاريخ في نهاية الأمر لا يكون حكماً شرعياً، فلا يمكن الانتقال من الفرع إلى الأصل، أو من الواقع إلى الفكر. والتاريخ أيضاً مد وجزر، وإن كان اليهود قد عرفوا عصرهم الذهبي في الأندلس أيام الحكم العربي الإسلامي، ولم يعانوا من الاضطهاد إلا في الغرب من مسيحيي الغرب، وإن كان العرب الآن هم الذين يدفعون الثمن. وليس مجالنا تفسير الآيات القرآنية، والرجوع إلى الوقائع التاريخية المحددة التي كانت وراء أسباب النزول، ولكن الذي يهمنا هو تقييم هذه المعاني والأحكام والأوصاف ما دامت الوقائع متكررة على ما يحدث في القياس عند علماء أصول الفقه. مهمتنا قراءة أحوال المسلمين المعاصرة في النصوص ورؤية مآسيهم فيها، وليس هدف التفسير في نهاية الأمر هو مطابقة مضمون النص للواقع التاريخي المحدد في الحوادث، وقت نزول القرآن فحسب، بل في الواقع الحي المتكرر والدائم في حياة المسلمين، وبالتالي تجد الأمة نفسها في القرآن، ويكون القرآن معبراً عن وضع الأمة في التاريخ. ليس المطلوب إذن أن يقول المتعالمون، إن هذه الآية في صف بني إسرائيل لا تعني ما يُرمى إليه، بل تعني شيئاً آخر تاريخياً محدداً، فإن عزل النص عن واقع المسلمين واختزال دلالته التي يمكن أن يولدها في نفوسهم ربما يكون فيه تمييع وفهم غير ملائم. فإن قيل: إن مقاومة الصهيونية والصراع مع إسرائيل أقوى وأعتى من أن تتم المواجهة معه عن طريق بيان أوصاف «بني إسرائيل» في القرآن حتى بعد تعميمها وإطلاقها على سلوك إسرائيل، قادة وشعباً. فالصهيونية حركة سياسية عنصرية توسعية استيطانية قامت في القرن الماضي وقت نشأة الحركات القومية والنزعات الرومانسية، وبالتالي لا يمكن مقاومتها إلا بحركات سياسية، حركات تحرر ومناهضة للاستعمار، وكما قامت على العدوان فإنها لا ترد إلا بالقوة، وهذا صحيح علمياً وتاريخياً أمام مجامع العلماء والرأي العام المستنير. ولكن الذي يهمنا هو الحرص على الوعي القومي لشعوبنا الإسلامية، وتقوية مناعتها ضد تسرب الصهيونية إلى أعماقها، بعد أن ظهروا في أجهزة الإعلام على أنهم «أولاد العم»، الأصدقاء الذين يفون بوعودهم، وبعد أن أصبحت عند البعض منا بعد أن تم تزييف وعيهم القومي، نموذجاً للتحديث في زراعة الصحراء، وصناعة الماس، وتربية الكتاكيت.أما أسباب قوتهم الأخرى من تضحية وتجنيد للجماهير فهي غائبة عنا. مهمتنا إذن شحذ وعينا القومي، واستعمال الوحي كحصن حصين لنا ضد مخاطر الصهيونية والاعتراف بها والتعامل معها، وغض النظر عن أطماعها بدعوى ضعف الحيلة والمهادنة المؤقتة، وهذا نداء إلى علماء الأمة الإسلامية وفقهائها للتكاتف والاتحاد من أجل الوصول إلى فهم شرعي واحد، فقد نخطئ وقد نصيب، فإن أخطأنا فيمكن التصويب، وإن أصبنا فنحن نحتاج تكاتف الجميع من أجل حماية وعي الأمة والحرص على روحها وتاريخها ووحيها، فهي مسؤولية أمام الله وأمام الناس وأمام التاريخ، وقضية ليست حكراً على أحد لأنه موضوع تعم به البلوى ويمس كل مسلم، وتتشرد بسببه الملايين. وحتى لا تأتي أجيال بعدنا، تكون ضحية للصهيونية وتوسعها وأطماعها وانتشارها كنموذج للتحديث لمجتمعاتنا، ونتحول نحن إلى حضارات متحفية في تاريخ البشرية ثم نتساءل: أين كان علماء المسلمين وفقهاء الأمة؟ -------------- أستاذ الفلسفة - جامعة القاهرة