أصدرت لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأميركي ملخصاً لتقريرها حول اعتماد التعذيب منهجاً في دوائر وكالة المخابرات المركزية الأميركية «سي آي إيه» خلال السنوات التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية. وكان من نصيب هذا الملخص أن يُنشر بكثافة على «المواقع الإلكترونية السوداء» في معظم دول العالم. وفيما كنا نعتقد لبعض الوقت أننا نعرف الشيء الكثير حول هذا الموضوع، إلا أننا فوجئنا مؤخراً بتفاصيل صادمة جديدة حوله لم نكن نتوقعها. وأريد أن ألفت الانتباه في هذا المقال إلى النزر اليسير من تلك الممارسات المخزية من أجل إلقاء الضوء على هذا البرنامج المريب، وحتى نتلمس طريقنا القويم في أسلوب معالجته والتحاور بشأنه، وهو الجدل الذي يشغل الآن الأوساط السياسية والاجتماعية كافة. وأول ما تجدر الإشارة إليه هو أن الصورة التي قدمتها «وكالة المخابرات المركزية» ذاتها ومعها مسؤولو إدارة بوش الابن لبرنامج التعذيب، كانت مرسومة بعناية ودقة احترافية بالغة، واستخدمت فيها أدق التعابير والمصطلحات القانونية من أجل «شرعنة» هذه الأفعال غير الإنسانية. وقيل أيضاً إن هذه «الأدوات» هي وحدها القادرة على إنتاج نسخة استخباراتية ذات فعالية عالية، وهي التي أنقذت الشعب الأميركي من عدة كوارث إرهابية. وعندما تقرأ تقرير الكونجرس كاملاً، فستشعر أنك بصدد الاطلاع على أفعال صادرة عن نوع آخر من البشر غير الذي تعرفه، أي أولئك الذين لا يعرفون شيئاً عن أبعاد النشاطات التي يمارسونها ولا يتمتعون بمَلَكة تقدير نتائجها وتداعياتها. لقد كانت مهمتهم من النوع العاجل الذي لا يحتمل التأجيل ولا التأخير والانتظار. وكان الخوف الذي مَلَكَ عليهم أنفسهم من النوع المتأصّل والمتجذّر في الأعماق. إلا أن هذا الكمّ الهائل من مشاعر الخوف والاستعجال كانت له وجهة واحدة، تعذيب السجناء وانتزاع المعلومات من أفواههم بشتى الطرق والوسائل. وكانوا في بعض الأحيان يتجاوزون في تنفيذ برنامجهم تعليمات الوكالات الحكومية الرسمية بما فيها الكونجرس ووزارة الخارجية وحتى البيت الأبيض ذاته. ومهما اختلفت التفاصيل والآراء حول ما حدث، فليس هناك إلا وصف منفرد له: لقد كان برنامج التعذيب كارثة هائلة وفق كل المقاييس والأعراف. ودعوني أقتطف لكم بعض التعليقات حول ملخص التقرير الذي نشر. فقد أشارت بعض المواقع الإلكترونية السوداء إلى أن الشيء الذي كان يركز عليه المحققون في سجون التعذيب هو استنطاق المعتقلين حول ما يعرفونه عن هجمات يتم التخطيط لها في المستقبل. وفي معظم الحالات، كان المعتقلون متعاونين إلى أبعد الحدود، وقدم بعضهم معلومات مفصلة حول التركيبة القيادية السرية لتنظيم «القاعدة». ولكن، إذا ما قال أحد المعتقلين إنه يجهل ما يتم التخطيط له من هجمات مقبلة، فإن المستنطقين يعدّون ذلك دليلاً على أنه يستحق التعذيب أكثر. وقال خبراء بخفايا برنامج التعذيب إن خطط «استنطاق المعتقلين» التي تعتمدها «سي آي إيه» في برنامج التعذيب تشتمل على: العزل الانفرادي الدائم للمعتقل في الظلام الدامس، وتخفيض كمية المواد الغذائية الكافية لبقائه حيّاً، ووضعه تحت ظروف حرارية غير ملائمة كالبرد الشديد، وتشغيل الموسيقى الصاخبة في زنزانته على مدار الساعة حتى يعاني من الأرق المتواصل والحرمان من النوم، وربطه وتقييده بطرق مختلفة بحيث لا يتمكن من الاستلقاء والاسترخاء. وتعرض بعض السجناء للتعذيب بتعليق الأيدي أعلى الجسم بواسطة حبال لمدة 22 ساعة في اليوم من أجل «كسر» قدرتهم على المقاومة. وبشكل عام، اتصفت عملية الاستنطاقات ذاتها بالشيء الكثير من القسوة والوحشية. وقد قال السيناتور الجمهوري جون ماكين الذي سبق له أن عانى من هذا النوع من التعذيب عندما وقع أسيراً في أيدي الفييتناميين، في شأن هذا التقرير: «في بعض الأحيان تمثل الحقيقة الكبسولة التي يصعب ابتلاعها. وفي أحيان أخرى، ينطوي ذكر الحقيقة على الكثير من الصعوبات على المستويين الوطني والعالمي. وفي بعض الحالات، يستغلها أعداؤنا للنيل منّا. إلا أنني واثق من أن الشعب الأميركي اعتاد على التصدي لهذه المحاولات». ولكنني أرى شخصياً أن الغالبية العظمى من رجالات حزبه لا تؤيد هذا الرأي. ولا شك أن البيت الأبيض يستحق التقدير لتشجيعه وإصراره على نشر هذا التقرير. ولا بأس في أن تنفضح أساليب جورج بوش الابن ومساعديه الذين اتخذوا من التعذيب سياسة رسمية لحكومة الولايات المتحدة. ----- بول والدمان محلل سياسي أميركي ----- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سرفيس»