خرجت الصراعات في سوريا بعيداً عن مطالب الشعب، ونسي المتصارعون أن هناك نحو عشرة ملايين مواطن سوري مشردون ونازحون وهائمون ينتظرون حلاً إنسانياً قبل الحلول العسكرية والسياسية. ولست ضد أن تكون مكافحة الإرهاب أولوية دولية، لكن المؤسف أن تصبح القضية السورية هامشية وثانوية، لدرجة أن تختصر الأمم المتحدة جهدها السياسي عبر مبادرة «دي ميتسورا» على حل نزاع بين شارعين في حلب، ومثل هذا الطموح الدولي يمكن أن يقوم به وجهاء من المناطق الساخنة بوسعهم تجميد القتال بضعة أيام ريثما يتم اختراق ما ينسف جهداً محلياً، إنها مبادرة أقل شأناً من أن تكون من هيئة الأمم. لقد رحبت في مقالتي السابقة بمبادرة «دي ميتسورا» لأنها المتوفر الوحيد حالياً، ولكنه ترحيب دبلوماسي، وقد أشرت إلى القلق من تجزئة الحل ومن أن تعني المبادرة وضع القضية في ثلاجة أشد برودة من ثلوج المرتفعات التي يرتجف فيها الأطفال الذين لا يملكون ما يقيهم الصقيع، وحتى المترفين منهم ممن يملكون خياماً عصفت بخيامهم قبل أيام رياح وأمطار اقتلعت خيامهم ووجدوا أنفسهم وسط سيل جارف، وهذا جزء من مأساة كبرى نخشى أن تصبح هامشية فلا يفرغ لها المجتمع الدولي حتى يفرغ من حربه ضد الإرهاب بعد سنين لا يعلم عددها إلا الله فقد قال قادتها إنها حرب طويلة الأمد. وإذا كان النظام قادراً على الإفادة من فرصة التجميد لتمكين قواته النظامية فإن خصومه من المعارضة المسلحة سيبحثون عن عمل آخر وسينفرط شملهم، ولن يبقى مرابطاً متربصاً غير الإرهابيين. ولا يمكن الانتصار على الإرهاب إلا باجتثاث جذوره، وجذوره في سوريا هو هذه الفوضى العارمة التي جعلت سوريا مصْيدة دولية يؤمها إرهابيون متعددو الجنسية عابرون للقارات، لا شأن للسوريين بهم! لكن بعض الناس لم يعد أمامهم بعد شعورهم بالخيبة والإهمال سوى أن يهادنوا من يقدم لهم حماية من الفقر والتشرد والظلم، فإن وقعوا بيد من يلاحقهم سيتعرضون لموت عبر تعذيب انتقامي أهون منه بكثير عذاب جهنم، وإن وقعوا بيد الإرهابيين فأمامهم النطع وقطع الرأس، وإن وقعوا بيد الفقر المدقع والبرد القاتل فأمامهم موت أطفالهم وأسرهم وقد مات العشرات جوعاً وبرداً، وهكذا يضطر كثير من أبناء الأرياف التي تسيطر عليها التنظيمات الإرهابية لتقديم الولاء لمن يحكم، وللأسف سرعان ما يأتيهم القصف من كل صوب بدعوى أنهم يحضنون الإرهاب، لذلك لابد من تحرير الناس عبر إنهاء الاستبداد الذي ولّد إرهاباً، وجعل سوريا أرضاً يباباً. ولقد بات كثير من المحللين يخشون أن تتحول الحرب ضد الإرهاب إلى حرب عبثية ما دام مصدر الإرهاب يتدفق بقوة، ومنبعه التطرف، وقد بدأه من دخلوا إلى سوريا من لبنان حاملين رايات دينية تبحث عن ثارات تاريخية استدعت نمو تطرف مضاد، وكانت هذه غلطة تاريخية ارتكبها «حزب الله» الذي كان السوريون حاضنته الاجتماعية والسياسية يوم كان يحارب المحتل الإسرائيلي. ولا توجد مبادرة سياسية تبعث تفاؤلاً أمام المعذبين في الأرض من السوريين، فحتى ما يقدمه الروس بات مفهوماً بأنه محاولة يائسة منهم للبقاء في الساحة بعد أن أهملهم التحالف، وبعد أن صارت إيران حليفة أو شبه حليفة لقوى «الاستكبار» بعد التقدم في المفاوضات النووية، وقد تم قبولها في التحالف بشكل سري حالياً، ولكنه سر شفاف، وعلى رغم حرص العرب جميعاً على بقاء إيران صديقاً وجاراً تاريخياً إلا أنها تبحث عن التحول إلى إمبراطورية فارسية يمتد نفوذها من اليمن إلى حدود تركيا، وبعض المحللين الإيرانيين عبروا عن ذلك بوصفه حزام المقاومة والممانعة الذي سيسقط كل من لايخضع لها! ومع اقتراب انتهاء مهمة تدمير سوريا بات السوريون يخشون ما وراء أكمة «دي ميستورا»، ويخافون من التقسيم على رغم إعلانه الحفاظ على وحدة التراب، ولكن الحلول المقدمة لا ترضي بحال شعباً قدم من التضحيات ما لم يقدمه شعب آخر من أجل حريته، ليجد ثمرة عذاباته حلولاً تقضي بإعادة القطيع إلى الحظيرة، وكأن شيئاً لم يكن.