أوحى الهبوط السريع لأسعار النفط خلال الأشهر القليلة الماضية ببعض الرؤى المهمة حول الفوائد التي يمكن للبعض أن يجنيها من هذا التحول المفاجئ وتداعياته على اقتصاد السوق. وليس ثمة من شك في أن معظم مستهلكي مصادر الطاقة في العالم سوف يرون في هذه الأخبار بوادر طيّبة طالما أن انخفاض الأسعار يعني أنهم سيدفعون تكاليف أقل لشراء المشتقات النفطية عند محطات بيعها، وبما يعني أيضاً أنهم سيوفرون مقداراً أكبر من الأموال لإنفاقها على شراء مواد أخرى. وأما بالنسبة لمنتجي النفط الذين يعتمدون على أسعاره المرتفعة لموازنة عجز ميزانياتهم الحكومية وتمويل المشاريع الجديدة وتقديم الدعم لمساندي سياساتهم، فإن ما حدث لا يمكن إلا أن يندرج في خانة الأنباء السيئة، وخاصة بالنسبة لتلك الدول ذات أعداد السكان الكبيرة. وينطبق هذا الحكم الأخير على كل من روسيا وإيران ونيجيريا وفنزويلا. ومن ثالثة الأثافي بالنسبة لروسيا أنها تعاني بطبيعة الحال من عقوبات اقتصادية معيقة لاقتصادها فرضتها عليها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي بسبب سلوكها في أوكرانيا وإيران. كما أن إيران معرضة الآن لعقوبات إضافية ينتظر أن تعلن عنها الأمم المتحدة بسبب برنامجها النووي ذي الأهداف الغامضة. ويأتي هذا الانخفاض المفاجئ في أسعار النفط في وقت يطرح فيه المجتمع الدولي قضيتين تنطويان على جانب كبير من الأهمية. تتعلق الأولى بما هو معلوم في أوساط المتخصصين في الشؤون التنموية من أن مواصلة النمو الاقتصادي في الدول النامية والفقيرة، بات هدفاً أساسياً لمكافحة الفقر وتأمين الهامش الأدنى من مستويات الثراء والرفاهية للعائلات التي تنتمي إلى شريحة الطبقة المتوسطة. وبات من الواضح أن هذه الشريحة تعاني من اتساع الفجوة التي تفصلها عن طبقة الأثرياء التي ازدادت غنىً على نحو متسارع وغير مسبوق خلال العقد الماضي. ويتطلب بلوغ هذه الأهداف زيادة عالمية في استهلاك السلع والخدمات بما فيها الغذاء. إلا أن هذا النمو يتطلب أيضاً زيادة في إنتاج الطاقة وخاصة الطاقة الكهربائية التي لا يزال إنتاجها يعتمد بشكل أساسي على المولدات التي تعمل بحرق الفحم (وخاصة في الولايات المتحدة) والتي تنفث كميات كبيرة من غاز ثاني أوكسيد الكربون في الجو. ومن الواضح أن زيادة الاعتماد على مصادر الطاقة التي تعتمد على حرق الفحم وبقية أنواع الوقود الأحفوري تتعارض بشكل كبير مع السعي العالمي الحثيث للحدّ من الانبعاثات الكربونية، والتي ينبغي تخفيضها إلى أدنى المستويات إنْ أردنا التحكم في مسببات التغير المناخي واحترار جو الأرض والتلوث البيئي. وتم قبول الاتفاقية التي تم توقيعها في بكين مؤخراً بين الصين والولايات المتحدة والتي تعد ثمرة التفاهم المتبادل بين الطرفين على تخفيض معدلات انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري، على أساس أنها تمثل خطوة أساسية لتشجيع الدول الأخرى على الالتزام بالضوابط البيئية ذاتها. وتنعقد الآمال الآن على أن يعلن المؤتمر العالمي حول البيئة الذي ينتظر تنظيمه خلال شهر ديسمبر 2015 في باريس بأنه يمثل البداية الحقيقية لإطلاق الجهود المخلصة لوضع حد لاحترار جو الأرض. ومن الجدير أن يشار بأنه لم يتحقق أي تقدم ذي مغزى فيما يتعلق بهذه القضية الحساسة منذ التوقيع على أول معاهدة حول التغير المناخي في مدينة كيوتو اليابانية عام 1997 (والتي رفضت الولايات المتحدة توقيعها). وتتوارد الآن إلى الأذهان سلسلة من التساؤلات ذات العلاقة بالقضايا الجيوسياسية في الشرق ألوسط وتداعيات انخفاض أسعار النفط وتأثيراتها على سلوك الدول المعنية في المنطقة. وعلى سبيل المثال، هل يمكن لأسعار النفط المنخفضة أن تحثّ القادة الإيرانيين على الموافقة على عقد صفقة نووية مع مجموعة 5+1؟ ولو أخذنا بعين الاعتبار الأموال الضخمة والأجندات السياسية الهائلة التي وظفتها إيران للترويج لبرنامجها النووي، فسوف نستنتج أن من غير المحتمل بأن يدفعها انخفاض أسعار النفط إلى تغيير مواقفها والحد من رغباتها في مواصلة تخصيب اليورانيوم والتمسك ببرنامجها طويل الأجل لتطوير الصواريخ بعيدة المدى. ولكن، لو كتب للانهيار الاقتصادي أن يؤدي إلى توترات في شوارع طهران، فلا شك أن خامنئي سيكون مستعداً لحثّ فريقه المفاوض لتقديم ما يكفي من التنازلات للوصول إلى اتفاقية نهائية بشأن البرنامج النووي الإيراني بحلول صيف 2015. ومن الناحية التاريخية، لم يكن في وسع المحللين الاقتصاديين أن يتوصلوا إلى نظام دقيق للتنبؤ بارتفاع وانخفاض أسعار النفط طالما أن السوق يعتمد على عدة عوامل متشابكة تتحكم فيها. وهذه الحقيقة بالذات، تزيد من صعوبة تحديد من هم الخاسرون والرابحون فيما يحدث.