شاركت مؤخراً، نيابة عن الشعب السوري، في مراسم تأبين «بيتر كيسينج»، موظف الإغاثة الأميركي الذي قتله إرهابيو «داعش» بولاية إندايانا الأميركية، وقد كانت فرصة لتقديم التعازي لعائلة الرجل الموصلة أيضاً بالشكر والعرفان لجهوده النبيلة في سوريا، ولم يكن ذلك سوى أقل واجب تجاه رجل شجاع ضحى بحياة مريحة بالولايات المتحدة لمساعدة المدنيين البائسين في سوريا التي مزقتها الحرب. والحقيقة أنه ليس غريباً على تنظيم «داعش» أن يقتل «كيسينج» بالطريقة البشعة التي رأيناها، رغم أنه لم يكن تحت اسمه الجديد الذي اختاره بعد اعتناقه الإسلام عقب اختطافه، وهو «عبدالرحمن»، سوى ملتزم بما أمرنا به النبي محمد عندما قال «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»، لذا كان قتله مخالفاً لكل المبادئ التي كرسها الإسلام والتي يدعي «داعش» زوراً الدفاع عنها، فتنظيم «داعش» بات من أكثر التنظيمات المتشددة في التاريخ الإسلامي، ويمكن مقارنته بجماعة أخرى ظهرت في الإسلام معروفة باسم «الخوارج» كانت تقتل المسلمين وتسفك دماءهم وتكفرهم فقط لاختلافهم في الرأي. وبنفس الطريقة يمعن «داعش» في إراقة دماء المسلمين الذين يدافعون عن الديمقراطية جرياً على تأكيدات الفقهاء والعلماء من أن الديمقراطية لا تخالف الدين وأنها تنسجم مع الإسلام ولا تعارضه. لكن إلى جانب المسلمين الذين عانوا من تطرف المتشددين، هناك الأقليات من أصحاب الديانات الأخرى، حيث شاهدنا كيف مارست «داعش» التطهير الديني في حق الأيزيديين والمسيحيين، وذلك رغم التأكيد الواضح لتعاليم الإسلام على احترام وحماية غير المسلمين. وبالنظر إلى بشاعة الجرائم التي يرتكبها «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية التي تتوسل بالدين وهو منها براء سارع علماء المسلمين في جميع أنحاء العالم لإدانة جرائمه، وسعوا إلى دحض أفكاره ومقولاته الواهية، وقد انضممت إلى أكثر من مائة عالم إسلامي بارز في إصدار فتوى تفند الأيديولوجية الدينية المنحرفة التي يستند إليها التنظيم الإرهابي، وإبراز التضليل الذي تمارسه التنظيمات الإرهابية في حرف الإسلام عن مساره الصحيح، وتوظيف القرآن والنصوص الدينية الأخرى لتشويه صورة الدين، بل وفي تصريح لي خلال الشهر الماضي أكدت أنه من واجب المسلمين في البلدان الغربية التبليغ عن أي شخص يعتزم السفر إلى سوريا للقتال في صفوف «داعش». لكن وفيما عدا المواجهة الأيديولوجية والحرب الفكرية التي تشن على الإرهاب، يتعين أيضاً خوض حرب سياسية لنزع مبرراته وهي في الحالة السورية تتمثل في النظام السوري نفسه، فعندما نزل السوريون للاحتجاج على النظام الظالم في دمشق كان همهم العودة إلى تاريخ طويل من التعايش المشترك بين جميع الأديان واستعادة الحرية، لكن بدلا من الاستجابة لتطلعات الشعب واجه نظام الأسد الاحتجاجات السلمية بقمع شديد أدى في النهاية إلى اندلاع حرب خلفت حتى الآن أكثر من 200 ألف قتيل وأزيد من تسعة ملايين نازح عن بيوتهم، بمن فيهم ثلاثة ملايين لاجئ خارج البلاد، هذا ناهيك عن الذين قضوا في سجون النظام وأقبيته بسبب التعذيب والإعدامات العشوائية، وكل ذلك فيما العالم بأسره يتفرج ومعاناة السوريين تتفاقم. لذا وإذا كان الغرب حريصاً فعلا على دحر «داعش» والقضاء عليه، فعليه البدء بالضغط على النظام دبلوماسياً وعسكرياً، بما في ذلك توجيه ضربات جوية إلى مراكز قوته، وذلك لدفعه إلى التفاوض الجدي حول مرحلة انتقالية يسلم بموجبها السلطة إلى جهة تمثل الشعب السوري، حينها فقط يمكن للسوريين التفرغ لمحاربة «داعش» وباقي التنظيمات الإرهابية. ولا ننسى أن الإرهاب في سوريا بجميع أطيافه استفاد كثيراً من التقاعس الدولي، كما استغل طبيعة النظام القمعية والجرائم التي ارتكبها ضد الشعب والفراغ الذي حصل بعد ذلك لتوافد الآلاف من المقاتلين الأجانب على سوريا، ولولا حالة الفوضى الناجمة عن حرب الأسد ضد الشعب لما ظهرت «داعش» وأخواتها فوق الأرض السورية، ليبقى الحل في مواجهة الأسد وتمكين السوريين من الوسائل الضرورية لوقوفهم جميعاً ضد الإرهاب، وفي المقدمة من ذلك التمكين تخليصهم من الأسد وزمرته. محمد اليعقوبي: إمام سابق للجامع الأموي بدمشق ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست بولومبيرج نيوز سيرفس»