يقدم الخليج يومياً نماذجه الخاصة، على مستويات التنمية والنهضة، سواء في الاقتصاد أو العمران، والنجاحات التي تحققت في دول مجلس التعاون هي الأبرز عربياً منذ نصف قرن. الوجهات التي كانت هي المحطات الرئيسية للناس (بيروت، القاهرة، بغداد)، باتت الآن أقل جاذبية بفعل العديد من التحولات الثقافية والأمنية والاقتصادية، وهذا ما يشير إليه كاتب دقيق، هو فهد الدغيثر، في مقالةٍ فصّل فيها تحولات الاتجاه من الدول العربية في الشمال والغرب لمصلحة مدن دول الخليج، مثل الرياض، دبي، أبوظبي، جدة، المنامة وسواها. هذا يعبر عن انتصار تنموي حقيقي يمكن رصده على أكثر من مستوى، وأخص بذلك فرص العمل من جهة، والبيئة الصالحة للعمل من جهةٍ أخرى. الإمارات التي تحتضن أكثر من مائتي جنسية لديها بيئة حاضنة للعمل، وهي تقدم تسهيلات في مجال الاستثمار تجذب المستثمرين من أنحاء المنطقة والعالم، لهذا تشكّل النمط «الكوسومبولوتاني» العولمي الذي يحققه هذا النموذج الفريد، وعليه، فإن البيئة هذه هي التي جذبت جميع المستثمرين، وجعلت من العامل العربي أو الموظف يتمنى أن يحصل على فرصة عمل في دبي، وبخاصةٍ أنها فرص تحقق دخلاً جيداً بفعل ارتفاع المداخيل. الأمن الذي يتحقق في الخليج هو الأهم بالمنطقة إذا أضفنا طبعاً الأردن والمغرب، والنهج الملكي-كما هو تعبير الصحفي عثمان العمير-هو الذي يحقق الرخاء والاستقرار، ذلك أن المعادلة تكون أكثر قرباً من النسيج الثقافي العربي. كان الأيديولوجيون كلهم يهاجمون الدولة الرعوية، ويطالبون بالنهضة الديموقراطية على نماذج أحزاب «البعث» والقومية، وآل بتلك الديموقراطيات المطاف إلى أن أصبحت مادة للضحك والتندر، وصارت الديموقراطية العربية أضحوكة العالم. الأمن الذي تجده في الدول الخليجية والملكية العربية استثنائي ونادر، ولهذا، فإن الخليج رغم كل الاستهداف الذي حصل وسيحصل يبقى المجال الآمن، قارن أمنها بالمدن التي ذكرت في فاتحة المقال! الراحل سمير قصير كان متعجّلاً في تحليله برأيي، حين قال في كتابه:«تأملات في شقاء العرب»:«في دبي، حيث ناطحات السحاب تتكاثر ضمن هندسة تماثل هندسة شيكاغو كان من شأن الجهد الجبار المبذول في سبيل التنظيم والتحديث..إلا أن هذا النجاح الباهر وهذه الفخامة التي تذكر البعض بولاية كاليفورنيا لا يخلوان من هشاشة تنذر بالخطر، وذلك بدءاً ببنية السكان..إن عملية التحديث تبقى وهماً.. فسيطرة التقاليد تعيق أشكال التحول المجتمعي». انظر الصفحات (40-43)، سمير الذي قتل غيلةً في بيروت كان ضحية تصوراته الشمولية التي تتعامل مع المنجز الخليجي على أنه إنجاز عمراني، وليس إنسانياً. القليل من التأمل في التجربة الخليجية يمنع الإنسان من منزلقات التحليل العاجلة، والتي تنبع من رؤية شمولية لا رؤية متروية فاحصة دارسة.