كبار المتخصصين في مجال أدبيات الانتقال الديمقراطي كتبوا سنة 1986 كتاباً جماعياً لا محيد عنه Transition from Authoritarism Rule، أنصح الخاص والعام بمطالعته، وتبنى مجموعة هذه الأبحاث عمالقة في العلوم السياسية الأميركية، وتبقى دروس ونتائج هذا الكتاب صالحة ليومنا هذا وللعديد من المناطق العربية المتواجدة على بركان ساخن. والكتاب الجماعي هذا منتوج علمي نادر في عالم فكري تختلط فيه الأبحاث العلمية الدقيقة النادرة بالأبحاث والمنتجات المفتقدة للضوابط العلمية خاصة في مجال العلوم السياسية. والعلم الحقيقي هو الذي لا يخرج على ثلاث خاصيات أساسية: 1) العلم هو علم مركب بمعنى أنه تمثيلية سببية وموضوعية للحقيقة، فربط الأسباب بالمسببات مسألة مصيرية في مجال العلوم أيا كانت والالتزام بالموضوعية والحيادية أمر لا مفر منه لتكون النتائج نتائج يمكن أن تعمم وتطبق. فلا أخال مكتشفي اللقاح المنتظر ضد فيروس إيبولا سيقومون بتخصيصه لشعب دون الشعوب بدعوى أنه صالح لمرضى أو وقاية لأناس دون غيرهم مع أن لهم الأعراض نفسها، فالنتيجة العلمية لا تسمى بالعلمية، إلا أنها يمكن أن تعمم على الجميع، والشيء نفسه يُقال عن النتائج في مجال العلوم السياسية، فالعالم أو الباحث في هذا المجال يدندن في إطار ثلاثية الفهم والشرح والتنظير (وهنا بمعنى تعميم النتائج)، ومساحة العلوم السياسية ليست بمساحة صحفية أو ارتجالية، فلها قواعد عالمية وأبجديات رياضية على شاكلة الفيزياء والعلوم الطبيعية وهلم جرا. والخاصية الثانية هي أن نتائج العلوم أيا كانت يمكن أن تفند. فالعلم كما يقول ماكيافيللي هو الحقيقة الفعلية للظاهرة التي تنحو نحو التأكيد، ولكن مع ذلك لا يمكن لنتيجة علمية أن يدعي صاحبها أنها الحقيقة المطلقة، أو أن تحتكر تلك الحقيقة كما يقول "إدكار موران". والحقيقة المطلقة هي لله سبحانه وتعالى وحده العالم المطلع، والقادر المقتدر. أما العلم الإنساني أيا كان فهو لصيق بالإنسان وبطبيعته البشرية، أي يبقى جزئياً وبالإمكان مراقبة تلك النتائج واختبارها، بل وتفنيدها والإتيان بنتائج علمية أكثر واقعية ومصداقية في ميراث العلم. أما الخاصية الثالثة، فهي أن العلم هو علم منشئ، بمعنى أن الهدف الأول والأخير لأي علم هو تنمية المجتمع والسعي الدؤوب لتطويره وتنميته، ولا يخال أحد أن المجالات الأربعة للعلوم السياسية وهي العلاقات الدولية والعلوم الإدارية والنظريات السياسية والسوسيولوجية السياسية إنما يكتب فيها وعنها وتدرس لملء الرفوف وإعداد البرامج للطلبة فقط. كلا وألف كلا. فهي مجتمعة يجب أن تساهم في تطوير مؤسسات الدولة وتنمية الوطن بل والمجتمع الدولي، لذا فالكتاب سالف الذكر هو من الكتب العلمية المقتدرة ذات الحمولة الفكرية والمجتمعة المتقدة لو فهمت مغازيه ولو انتسبنا إلى الميراث الشرعي السياسي الحقيقي في مجال بناء المجتمعات والأوطان. والكتاب استدعى من خلال مؤلفيه جهداً علمياً فعلياً. كما أن أهم نتيجة خرج منها الكتاب لا علاقة لها بالتبشير بأفكار الأولين من فلاسفة التنوير، لأنها قصدت ما نحن في حاجة إليه في الوطن العربي، وهو ضرورة تواجد الحكمة والواقعية عند الفاعلين السياسيين المهيمنين. الدول التي تناولها الكُتاب سالفو الذكر بالتحليل والدراسة كالبرتغال وإسبانيا واليونان وأميركا اللاتينية جعلتهم يخرجون بقناعة أنه مهما تعددت واختلفت التجارب السياسية ونوعية الأنظمة السياسية، فإن بناء أي مجتمع هو رهين بالفاعلين السياسيين الكبار والصغار في المجتمع وبخاصة الكبار منهم، والذين باستطاعتهم لوحدهم زرع الثقة التي هي أساس الحكم بينهم وبين الفاعلين الآخرين، وهم لوحدهم بإمكانهم إقامة التنازلات الأساسية لإيصال سفينة التغيير إلى بر الأمان، وأخذ التجارب المريرة التي مرت وتمر منها دول عربية كليبيا والعراق وسوريا فإن فشلها راجع إلى النوعية الإقصائية للفاعلين الكبار. تبنى الكتاب نظرية الاختيار العقلاني، والتي بدورها تجد جذورها في الميكانزمات الفيزيائية والرياضية التي بلورها كل من كونرو وكوندورسي Cournot et Condorcet، والنظرية تحدث طلاقاً مع نظرية الشروط القبلية للديمقراطية، والتي حاول بعض حراس العلوم السياسية تقديسها لعقود بل ولقرون. وتعظم في المقابل العقلانية والموهبة عند الفاعلين، أي الأفراد الذين بإمكانهم بناء وعي سياسي جماعي في إطار اللايقين الذي تعرفه البيئات السياسية المقبلة على الانتقال الديمقراطي أو التي ركبت الموجة، ولهذا السبب عظم الكتاب من فائدة الميثاق السياسي التعاقدي الذي يمكن أن يطبق في العديد من الأوطان كما هو شأن التجربة المغربية اليوم بفضل عبقرية الملكية التي تجمع ولا تقصي، ونضج الفاعلين السياسيين، التي جعلت المغرب في منأى عن الاحتجاجات العارمة التي شهدتها دول مجاورة. ـ ـ ـ ـ ـ ـ أكاديمي مغربي