لم يحظَ إقرار الحكومة الإسرائيلية مؤخراً لقانون يجعل إسرائيل «دولة للشعب اليهودي»، بأغلبية 15 صوتاً في مقابل سبعة أصوات، بالاهتمام الذي يستحقه من قبل الأوساط الإعلامية والفكرية العربية على الرغم من الدلالات الخطيرة التي تنطوي عليها هذه الخطوة. ربما يرى البعض أن هذا القرار لا يضيف جديداً، لأن إسرائيل هي دولة اليهود بالفعل، وقامت على هذا الأساس الديني وهو جمع شتات اليهود من كل أنحاء العالم في منطقة واحدة هي «أرض الميعاد» المزعومة! لكن الأمر ليس بهذه الصورة المبسطة، ولو كان كذلك ما كان هذا الإصرار الإسرائيلي الكبير في مفاوضات السلام خلال السنوات الماضية، خاصة من قبل اليمينيين المتشددين، على أن تتضمن أي تسوية سلمية مع الفلسطينيين اعترافاً فلسطينياً وعربياً ودولياً بيهودية الدولة العبرية، وهذا لا يأتي من فراغ أو ينحصر ضمن إطاره الديني الضيق، وإنما له أبعاده المعقدة التي يتداخل فيها السياسي مع التاريخي والديني، وتتجاوز آثاره الحاضر إلى المستقبل، وهو ما تعيه إسرائيل جيداً، وتعمل وفقاً له وتحاول أن تفرض الأمر الواقع بشأنه من خلال تحويله إلى قانون ملزم. التشديد على أن إسرائيل هي «دولة للشعب اليهودي» ونيل الاعتراف الدولي بذلك، يعني أول ما يعني طي صفحة عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم، وهو أمر مقرر في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 الصادر في 11-12-1948 الذي نص على «حق العودة والتعويض». ومن ثم يصبح الأمر محصوراً في جانب التعويضات ولا يحق للفلسطينيين الحديث عن العودة ما دامت إسرائيل «دولة لليهود» من دون غيرهم. وتلقي «يهودية» الدولة كذلك بظلال قاتمة على وضع عرب 1948 أو «عرب إسرائيل» الذين يعيشون في إسرائيل ويحملون جنسيتها، وهم الذين أصرُّوا على البقاء في أماكنهم بعد الاحتلال الإسرائيلي لمدنهم وقراهم، ويقدر عددهم بنحو 20 في المئة من سكان الدولة العبرية. فهؤلاء سيصبح وضعهم في خطر، لأن إسرائيل يمكن أن تتجه إلى طردهم أو ممارسة ضغط شديد عليهم يدفعهم إلى المغادرة، أو المطالبة في مفاوضات السلام باحتوائهم ضمن حدود الدولة الفلسطينية المرتقبة، ولاسيما أن هناك بالفعل أصواتاً متشددة على الساحة الإسرائيلية تحذر من خطورة بقائهم في إسرائيل وتهديدهم للنقاء الديني والعرقي لها، فضلاً عن التركيبة الديمغرافية فيها، وتشتكي من زيادة أعدادهم بشكل أكبر من المعدل الإسرائيلي العام. ويزداد الأمر سوءاً إذا أخذنا في الاعتبار أن عرب 1948 يعانون أصلاً من حالة تمييز ضدهم تجعلهم بمنزلة مواطنين من الدرجة الثانية. ومن الجوانب الخطيرة لقضية «يهودية» إسرائيل أنها تعني العودة للمفهوم «التوراتي» القديم للدولة العبرية، وهو مفهوم يتجاوز حدودها الحالية إلى الحدود «التاريخية» المزعومة التي يؤمن بها المتشددون اليهود والتي تمتد من النيل إلى الفرات بما ينطوي عليه ذلك من مخاطر كبيرة، كما تعني إلغاء الرواية التاريخية الفلسطينية والعربية حول نكبة الشعب الفلسطيني الذي تم طرده قسراً من أرضه لمصلحة شعب آخر غريب عن هذه الأرض، ومن أجل تكوين دولة يهودية استناداً إلى مزاعم مختلفة لا تستند إلى أي مبرر قانوني أو تاريخي حقيقي. إن الاعتراف بأن إسرائيل هي وطن الشعب اليهودي إنما يؤكد مقولة «أرض الميعاد»، ومن ثم يصبح طرد الفلسطينيين أو حتى إبادتهم من هذه الأرض أمراً مشروعاً! وهذا يبيض صفحة إسرائيل في التاريخ على الرغم من الجرائم الفظيعة التي قامت ارتكبتها ضد الفلسطينيين قبل عام 1948 وبعده. وإذا ما نظرنا إلى قرار مجلس الوزراء الإسرائيلي الأخير حول «يهودية الدولة»، في إطاره الإقليمي الأوسع، فسنكتشف أبعاداً أخرى لخطورته تتجاوز السياق الفلسطيني- الإسرائيلي إلى التأثير في أمن المنطقة كلها واستقرارها، لأن وجود دولة دينية تستند إلى مفهوم توراتي عنصري وتفتح أبوابها لكل يهود العالم للهجرة إليها استناداً إلى ديانتهم فقط، يوفر لدعاة الدولة الدينية في منطقة الشرق الأوسط مبرراً لترويج دعاويهم ولسان حالهم يقول إن هذه إسرائيل التي توصف في الغرب بأنها دولة ديمقراطية حديثة ولها علاقاتها القوية مع الدول الكبرى، هي في حقيقتها دولة دينية عنصرية لليهود فقط، فلماذا يتم إنكار ذلك على سواها؟ هذا بلا شك أمر في غاية الخطورة، لأنه يصب في صالح المتطرفين والقوى التي تحركهم وتقف وراءهم والشعارات الدينية الزائفة التي يرفعونها وفي مقدمتها الشعار الخاص بـ«الخلافة الإسلامية»، وأحد تطبيقاتها «الخلافة» التي أعلنها زعيم تنظيم «داعش» المدعو أبوبكر البغدادي، والتي تتشابه مع مفهوم «يهودية الدولة» في إسرائيل في أن كلاً منهما يقوم على فكرة عنصرية، ولذلك نجد الدواعش يطردون الإيزيديين العراقيين بالقوة، ويضطهدون المسيحيين ويستولون على منازلهم، ويجبرونهم على تغيير ديانتهم لأنهم يريدون «دولة للمسلمين» فقط تماماً كما تريد إسرائيل أن تجعل من نفسها وطناً للشعب اليهودي من دون سواه. وفضلاً عما سبق فإن القبول بدولة للشعب اليهودي ذي العرق النقي، يوفر المبرر كذلك لطوائف وأعراق أخرى في المنطقة للمطالبة بتكوين دول خاصة بها، بحيث تكون هناك دولة للأكراد وأخرى للمسيحيين وثالثة للأرمن ورابعة للدروز.. وهكذا، وهذا ما تريده إسرائيل وسعت إليه منذ سنوات طويلة، لأن تقسيم المنطقة إلى دويلات للطوائف والأعراق يجعل وجود إسرائيل، وهي دولة الأقلية اليهودية، مستساغاً ومقبولاً في إطارها الإقليمي.