كُتب الكثير عن التداعيات الداخلية للتفاوت المتنامي في الدخل بالولايات المتحدة وكيف أنه يبطئ النمو ويضغط على الطبقات الوسطى، ويجمد الرواتب، كما يتسبب في مشاكل أخرى من قبيل صعوبة سداد أقساط ديون الدراسة الجامعية للشباب، أو دفع الرهون العقارية.. لكن ما لم يُكتب عنه الكثير هو التأثيرات الأخرى لهذه التفاوتات الصارخة في الدخل على السياسة الخارجة للولايات المتحدة وملامحها الكبرى. والحقيقة أن التداعيات، سواء داخل أميركا أو خارجها، لا تخطئها العين، متخذة أشكالا متعددة منها الظاهر والمباشر، ومنها الخفي وغير المباشر. فالنظام العالمي الذي نعيشه اليوم كان من صنيعة أميركا وتمويلها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقد اعتمد على شعور راسخ لدى المواطن الأميركي بدوره الخارجي على الساحة الدولية، وبأن بلاده لها وظيفة فريدة من نوعها واستثنائية يتعين الاضطلاع بها في العالم. وهكذا أبدى الأميركيون على مدى أجيال استعدادهم لتحمل المسؤوليات والدفاع عن أفكارهم. ورافقت هذه المرحلة التي انخرط خلالها الأميركيون في شؤون العالم شعوراً طاغياً بالتفاؤل كانت وراءه حالة الازدهار العامة التي شهدتها أميركا بعد الحرب العالمية الثانية وانتفع منها المواطنون. لكن مع معاناة الأميركيين اليوم في معيشهم والصعوبات التي تواجهها أعداد متزايدة منهم، تغيرت النظرة إلى السياسة الخارجية، ومعها المساعدات التي تقدمها أميركا للدول الأجنبية والإنفاق العسكري باعتباره ترف يجب أن يخضع للتقليص مع الحد من الطموحات الدولية. ومن الممكن مطالعة ملامح هذا التوجه على اليمين واليسار من خلال النزوع الانعزالي لتيار حفلة الشاي في الأوساط المحافظة، أو في حركة «احتلوا وول ستريت» على جانب اليسار. ثم هناك أيضاً تأثير آخر على السياسة الخارجية يتمثل في تراجع نموذجها الاقتصادي المزدهر الذي كان مصدر استلهام لباقي دول العالم، لاسيما في مجال الارتقاء بالطبقة الوسطى وعملية الترقي الاجتماعي، حيث لم تعد الولايات المتحدة قادرة اليوم على ممارسة نفس الجاذبية بعد أن اختطت لنفسها طريقاً مغايراً واتجهت نحو تأسيس مجتمع غير مستقر ينقسم بين النخبة التي تملك الثورة، وبين الجماهير، هذا الأمر من شأنه ضرب إحدى ركائز النفوذ الأميركي والمتمثلة في القوة الناعمة. ومشكلة الانخراط الأميركي في الخارج أنه اقتصر خلال السنوات الأخيرة على نخبة من نوع آخر لم تتجاوز الطبقة العسكرية التي شاركت في الحروب الأميركية، سواء في أفغانستان أو العراق، وقزم الوجود الأميركي في العالم ضمن حدود عسكرية ضيقة لا يكاد يشارك فيها الشعب الأميركي، ولأنه ما عد معمولا بالتجنيد الإجباري في الولايات المتحدة، ولم يعد المجتمع مسؤولا عن الفاتورة، فقد اقتصر الانخراط على النخب العسكرية التي بدورها لا تتجاوز 1 في المئة. لذا فإن أي انخراط مستقبلي في الشؤون الدولية يستدعي من الولايات المتحدة مشاركة شعبية أكبر، لاسيما في آسيا حيث سيكون القرن الحادي والعشرون قرناً آسيوياً بامتياز. ويتعين تعزيز الحضور الأميركي في قارة صاعدة تتزايد فيها وتيرة الازدهار وتكبر فيها الطبقة المتوسطة، مع ما يحمله ذلك من احتمالات الصراع بسبب تنامي الشعور القومي وبحث الطبقات الجديدة عن النفوذ والقوة كانعكاس لوقتها المستجدة. ولئن كانت التداعيات المقلقة لتزايد التفاوت في الدخل بين شرائح المجتمع الأميركي على الصعيد الداخلي كفيلة بالمسارعة في علاجها، فإن التأثيرات السلبية على السياسة الخارجية الأميركية تؤكد الحاجة الملحة لردم الهوة المجتمعية وتقليص الفجوة بين فئات المجتمع المختلفة. كيرت كامبل مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»