لا شك أن المأساة التي شهدتها بلدة «فرجسون» أعادت الجدل الوطني حول العنصرية والسلوكيات العسكرية لنظام الشرطة المحلية، وحول الاستخدام المفرط للقوة وانحراف النظام القضائي. أما الشيء الذي لم يحظ بالاهتمام في نقاشنا هذا، والذي يستحق منا إعطاءه كل الأهمية، فهو الثقافة العدوانية وظاهرة الإفلات الانتقائي من العقاب والتي أصبحت إحدى أسوأ خصائص النظام الشرطي في الولايات المتحدة. بعد متابعتي خلاصة الشهادات التي أدلى بها شهود العيان لجريمة «فرجسون»، أمام المحكمة العليا، شعرت بالصدمة بسبب التناقضات الفاضحة. ولم يكن الأمر يتعلق بوضعية يدي الضحية «مايكل براون» التي أثارت الكثير من النقاش القانوني، ولا بما إذا كان ضابط الشرطة «دارن ويلسون» قد وجّه له إنذاراً واضحاً قبل أن يطلق عليه النار ويرديه قتيلاً. بل يعود الأمر لبداية القصة عندما ادعى «ويلسون» أنه قال لـ «مايكل»: «لماذا لا تسير على رصيف المشاة؟»، إلا أن صديقاً لمايكل يدعى «دوريان جونسون»، قدّم رواية نقيضة حين شهد بأن «ويلسون» وجه الأمر لـ«مايكل» بطريقة تنطوي على الإهانة والمس بالكرامة. وعلي أن أعترف بأني وجدت رواية «جونسون» للقصة أقرب إلى الصدق. وقد سبق لي أن شاهدت الشيء الكثير من الميول العدوانية للشرطة الأميركية. وكثيراً ما تكررت مثل هذه المشاهد، وغالباً ما كانت تتجه بسرعة إلى العنف وتنتهي بالمآسي. وهنا تكمن المشكلة. وبعد أن رفضت محكمة نيويورك مؤخراً إدانة شرطي في حادث مقتل «إريك جارنير»، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز»، سلسلة من الصور لشبّان سود كانوا ضحايا لما أطلقت عليه الصحيفة «الصدامات القاتلة للشرطة» خلال العقد الماضي. وهناك الكثير جداً من حوادث القتل التي ذهب ضحيتها أبرياء على أيدي رجال الشرطة. وجاء في مقال لصحيفة «واشنطن بوست» بأن أكثر من 1000 مواطن يقتلون كل عام على أيدي رجال الشرطة، معظمهم من الذكور الأميركيين الأفارقة أو صغار السن من ذوي الإعاقات الجسدية. وعندما يراجع المرء هذه القصص المخيفة، سيساوره الشعور بأن الأمر أصبح يرتبط بعقلية «نحن ضدهم». هذه هي النتيجة التي أوصلنا إليها التصعيد المتزايد لضباط الشرطة في استخدام القوة المفرطة والشروع في القتل لأسباب تافهة. والعنصرية هي القضية الأساسية في كل ما يحدث، لكن الأميركيين الأفارقة ليسوا وحدهم ضحايا هذه السلوكيات المنحرفة. وقد تواردت إلى ذاكرتي قصة شاب أبيض يدعى «إيثان سيلور» مصاب بعاهة ذهنية. وبعد أن انتهى فيلم سينمائي كان يشاهده في إحدى دور السينما، لم يكن يعلم أن عليه مغادرة القاعة لأن العرض انتهى، فتوجه إليه ثلاثة رجال شرطة يتكفلون بحراسة دار السينما، وبدلا من الانتباه لإعاقته والاهتمام به، طرحوه أرضاً وبدؤوا بضربه حتى اقترب من الموت. وقد نجا الثلاثة بفعلتهم. وبسبب خبرتهم الطويلة، أصبح الأميركيون الأفارقة يفهمون الظلم والخوف الذي ينطوي عليه هذا السلوك الظالم الذي لا يخضع للرقابة. وقد أظهر استطلاع حديث أنجزته صحيفة «واشنطن بوست» أن 58 بالمئة من الأميركيين البيض الذين شملهم الاستطلاع يوافقون على عدم إدانة ضابط الشرطة «ويلسون»، مقابل 83 بالمئة من الأميركيين الأفارقة الذين رفضوا قرار المحكمة. وبيّن استطلاع آخر أجرته صحيفة «نيويورك تايمز»، أن 45 بالمئة من الأميركيين الأفارقة يعتقدون بأنهم واجهوا معاملة سيئة من رجال الشرطة بسبب لون بشرتهم. والآن، فإني لا أشك للحظة واحدة بأن الكثير من رجال الشرطة الأميركيين يشعرون بالخطر في كثير من المواقف التي يطلب منهم مواجهتها. وأعلم أيضاً بأن هناك الكثير من الشرطيين والشرطيات الطيبين والطيبات من ذوي الثقافة العالية في شؤون الخدمة العامة، والذين يعملون بطريقة بطولية لإنقاذ الأرواح والدفاع عن الأبرياء. ومن أجل هؤلاء الضباط الذين يتصفون بالنزاهة، ومن أجل المجتمعات التي يضحون من أجلها، فإن ثقافة الخدمات الشرطية في الولايات المتحدة يجب أن تتغيّر. وخلاصة القول إن المشكلة لا تبدأ من شرطي يقوم بدوريته المعتادة، بل من أساليب التدريب التي يكون قد اكتسبها، بالإضافة للسلوك السيئ الذي تعلمه من الضباط الذين يقودونه. ولن يحدث التغيير ما لم يضطلع قادة مراكز الشرطة بدورهم في معاقبة الشرطيين ذوي السلوك المستهجن، وما لم يتحمل الجهاز القضائي مسؤولياته الكاملة في معاقبة كل شرطي يستخدم القوة في غير محلها.