تسيير الدول من الأمور الصعبة في تاريخ الأمم والقادة. وعندما يتعلق الأمر بدولة قوية كالولايات المتحدة الأميركية، فإن الأمور تكون أعقد خاصة في مسائل الدفاع والخارجية. فهناك عوامل داخلية وخارجية غير مستقرة وفي تطور مستمر وتتداخل أحياناً.. فالعالم يتغير بسرعة كبيرة وبضبابية أعمق، ولم يستقر على حال يمكن أن يوصف بالديمومة أو الثبات؛ لذا فتحليل أي نظام إقليمي أو دولي متغير وانتقالي هو أمر صعب جداً، مما يجعل الرئيس الأميركي، صاحب القرار الأول في بلده، في مسائل الدفاع والخارجية، في حيرة من أمره، وقد يعيد أخطاء أسلافه كما يمكن أن يتبنى في آخر المطاف قرارات في انعكاس عجيب ومرير للتاريخ. فها هو أوباما يقيل وزير دفاعه تشاك هاجل مباشرة بعد الخسائر الكبيرة التي مني بها حزبه في انتخابات التجديد النصفي إبان السنة السادسة من رئاسته، وهو القرار الذي كان قد أخذه سلفه بوش الابن عندما أقال رامسفيلد عقب خسارة حزبه في التجديد النصفي إبان السنة السادسة من ولايته كذلك.. وكأن التاريخ يعيد نفسه. ولا أخال أوباما عندما يستيقظ صباحاً لا يستحضر في ذهنه هاته الصورة المتشابهة والمفزعة. مع رامسفيلد كانت الحرب في منطقة الشرق الأوسط تأخذ مساراً خطيراً مع تواجد قوات برية أميركية عديدة وخسائر لا متناهية في الأرواح جعلت الناخب الأميركي يمل من مشاهدة صور توابيت جيوش بلاده تصل يومياً بالطائرات إلى مقابر أميركا.. أما اليوم فالمسار يتجلى في قصف «داعش».. وها هم المحافظون يعتبرون هاجل كبش فداء من قبل البيت الأبيض في محاولة لوقف التصعيد في سوريا والعراق.. وها هو تشيني، نائب بوش الابن، الذي تعافى من زرع قلب جديد له بعد صراع طويل مع المرض، يقول أمام مركز الأبحاث المحافظ: «الوضع خطير، وإلحاق الهزيمة بهؤلاء الإرهابيين سوف يتطلب اتخاذ خطوات عاجلة ومستدامة وفورية عبر عدة جبهات»، كما «يتعين علينا ضربهم على الفور في معاقلهم، وأماكن تجمعهم، ومراكز قيادتهم، وخطوط اتصالاتهم أينما وُجدوا... لأننا في حالة حرب.. ويتعين علينا فعل ما بوسعنا مهما استلزم ذلك من وقت لتحقيق النصر». وهذا يعني أنه «يتعين علينا التوقف عن سحب قواتنا من أفغانستان»، و«اتخاذ إجراء عسكري إذا لزم الأمر» في إيران، وأن نقدم «الدعم والتأييد الكامل لهؤلاء الذين يحاربون الإخوان المسلمين». هاجل كان الرجل المثالي الذي يجسد سياسة أوباما الناعمة في مجال الدفاع، وحتى الخارجية، لترابطهما الوثيق.. وهو من قدامى المحاربين الذين تركوا بعض دمائهم في ساحة حرب فيتنام، وله علاقات وطيدة بالجيش، ويحمل العديد من الأوسمة، وله تجربة سياسية كبيرة بحكم كونه سيناتوراً جمهورياً سابقاً، وله توجه يتماشى مع استراتيجية أوباما القاضية بتقليص الحروب وإحكام القبضة على وزارة الدفاع.. لكن اليوم قوات «داعش» أصبحت تتوالد وتنمو في المنطقة. وعجيبة هي المسرحية غير الطوعية التي كان بطلاها أوباما وهاجل لحظة إعلان قرار رحيل الأخير. طبعاً بعد كلمات الشكر البروتوكولية للرئيس ونائبه وزملائه ولجنرالات الجيش وأعضاء الكونجرس ولنظرائه الأجانب وعائلته الخاصة، تحدث هاجل عن إنجازاته؛ كالإصلاحات التي نفذها في وزارة الدفاع، وتقوية التحالفات والانسحاب من أفغانستان.. غير أنه لم يتطرق للموضوع الذي كان وراء إقالته، حسب الخبراء، وهو الحرب ضد «داعش»! أوباما من جهته لم يبخل على وزيره المقال بالمدح والثناء واصفاً إياه بالراقي والنزيه والصديق العظيم والحكيم الذي بدأ بخفض القوات الأميركية في أفغانستان.. وقبل إقالته بأشهر معدودات، بقي هاجل ولأسابيع متتالية يقول إن كل أنحاء العالم تنفجر، بمعنى أنه يجب إعادة قراءة البيئة الأمنية العالمية وإعادة صياغة الاستراتيجية في مجال الدفاع والخارجية لأميركا التي هي في خطر، مقابل رئيس أميركي ينأى بنفسه ويتردد كثيراً في استخدام القوة العسكرية. هاجل، رجل السلام، سوف يستمتع بعطلته، أما أوباما فتنتظره أشهر صعبة في بيئة أمنية دولية لا ترحم.